الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسألة الثالثة : قد مر أن الإجماع إذا انعقد على شيء لم يجز مخالفته . وأما إذا استدلوا بدليل على حكم أو تأويل لفظ ولم يمنعوا من غيره جاز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول ، ولا إبطاله ، ولا يكون ذلك خرقا لإجماعهم ; لأنه قد يكون على الشيء أدلة ، فيجوز أن يستدلوا بدليل ، ثم آخر يدل على الحكم أيضا . قاله الصيرفي ، وسليم ، وابن السمعاني ، وغيرهم ، وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا ، وإنما الإجماع والاختلاف في الفتوى ، فأما في الدلالة فلا يقال له إجماع ; لأن الأدلة لا يضر اختلافها . قال : وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ، ويكون إجماعا على الدليل ، لا على الحكم .

                                                      والأصح هو الأول ; لأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها ، ومنعه يسد على المجتهد باب استخراج الأدلة ، ويستلزم منع كل قول لم يتعرض له الأولون . نعم ، إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفته الإجماع . [ ص: 515 ] وحكى صاحب الكبريت الأحمر " مذهبا ثالثا بالوقف ، وذهب ابن حزم وغيره إلى التفصيل بين النص ، فيجوز الاستدلال به ، وبين غيره فلا يجوز ، وذهب ابن برهان إلى خامس ، وهو التفصيل بين الدليل الظاهر فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز ، لجواز اشتباهه على الأولين . ومثل الظاهر بقول ابن أبي طاهر الزيادي من أصحابنا في مسألة المطاوعة سبق فطرها جماعها ، فلا يجب عليها الكفارة ، قياسا على ما إذا شرب أو أكل . قال : لأن أول الحشفة دخل إلى جوفها قبل دخول تمام الحشفة ، والجماع لا يتحقق إلا إذا تغيب الحشفة . قلنا : ومثل هذا لا يجوز أن يكون مستندا قبل وصول تمام الحشفة ; لأن الناس اختلفوا في هذه المسألة ، فإحداث مثل هذا الدليل لا يجوز ; لأن مثله لا يجوز أن يشتبه على الأولين . هذا كله إذا لم يتعرضوا لذلك الدليل ، فإن نصوا على صحته فلا شك فيه ، أو على فساده لم تجز مخالفتهم ، وإنما الخلاف حيث لم ينصوا على ذلك ، والصحيح الجواز .

                                                      قال أبو الحسين البصري : إلا أن يكون في صحتها إبطال حكم ما أجمعوا ، وقال سليم : إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع . قلت : وهذا منهم بناء على صحة ذلك منهم ، وقد سبق في الفصل السادس فيه تفصيل عن القاضي عبد الوهاب . أما إذا اعتلوا بعلة ، وقلنا يجوز تعليل الحكم بعلتين ، فهل يجري مجرى الدليل في الجواز والمنع ؟ [ ص: 516 ] قال الأستاذ أبو منصور ، وسليم في التقريب " : نعم ، هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا : لا علة لهذه ، أو لكون العلة الثانية تخالف العلة الأولى في بعض الفروع ، فتكون الثانية حينئذ فاسدة . وقال القاضي عبد الوهاب : ينظر ، فإن كان بحكم عقلي علمنا أن ما عداه ليس بعلة لذلك الحكم ; لأن الحكم العقلي لا يجب بعلتين ، فمن جوزه جعلها كالدليل ، لا يمنع التعدد ، إلا أن ذلك مشروط بأن لا تنافي العلة الثانية علتهم ، وأن لا يؤدي إلى خلافهم فرع من فروع علتهم ; لأنهما إذا تباينا امتنع لذلك ، لا لتعليل بهما ، ومن منع التعليل بعلتين ، فيجب على أصله منع التعليل بعلة غير علتهم ; لأن علتهم مقطوع بصحتها ، وفي ذلك دليل على فساد غيرها . قال : وأما تأويلهم الآتي ، وتخريجهم الأخبار فهو كالمذهب لا كالدليل ; لأن الآية إذا احتملت معاني ، واختلفوا في تأويلها ، أو أجمعوا على تأويل واحد ، صارت كالحادثة ، فلا يعدل عما أفتوا به . وقال الشريف المرتضى : أجمع الأصوليون على التحاق ذلك بالمذاهب لا بالأدلة ، وعندي أنه بالأدلة أشبه ، حتى يجوز قطعا ، ثم مثله بمثال يصح على طريق المعتزلة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية