الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                والثاني [ ص: 45 ] أن يكون المقذوف به متصور الوجود من المقذوف ، فإن كان لا يتصور - لم يكن قاذفا ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لآخر : زنى فخذك ، أو ظهرك - أنه لا حد عليه ; لأن الزنا لا يتصور من هذه الأعضاء حقيقة ، فكان المراد منه المجاز من طريق النسب ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " ، وكذلك لو قال : زنيت بأصبعك ; لأن الزنا بالأصبع لا يتصور حقيقة ، ولو قال : زنى فرجك - يحد ; لأن الزنا بالفرج يتحقق ، كأنه قال : زنيت بفرجك ، ولو قال لامرأة : زنيت بفرس أو حمار أو بعير أو ثور - لا حد عليه ; لأنه يحتمل أنه أراد به تمكينها من هذه الحيوانات ; لأن ذلك متصور حقيقة .

                                                                                                                                ويحتمل أنه أراد به جعل هذه الحيوانات عوضا وأجرة على الزنا ، فإن أراد الأول - لا يكون قذفا ; لأنها بالتمكين منها لا تصير مزنيا بها ; لعدم تصور الزنا من البهيمة ، وإن أراد به الثاني - يكون قذفا ، كما إذا قال زنيت بالدراهم أو بالدنانير أو بشيء من الأمتعة - فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ، ولو قال لها : زنيت بناقة أو ببقرة أو أتان أو رمكة - فعليه الحد ; لأنه تعذر حمله على التمكين فيحمل على العوض .

                                                                                                                                لأن حرف " الباء " قد يستعمل في الأعواض ، ولو قال ذلك لرجل - لم يكن قذفا في جميع ذلك سواء كان ذكرا أو أنثى ; لأنه يمكن حمله على حقيقة الوطء ، ووطؤها لا يتصور أن يكون زنا فلا يكون قذفا ، ويمكن حمله على العوض فيكون قذفا فوقع الاحتمال في كونه قذفا فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ، ومن مشايخنا من فصل بين الذكر والأنثى فقال : يكون قذفا في الذكر لا في الأنثى ; لأن فعل الوطء من الرجل يوجد في الأنثى فلا يحمل على العوض ، ولا يوجد في الذكر فيحمل على العوض ، والصحيح أنه لا فرق بين الذكر والأنثى ; لأن الوطء يتصور في الصنفين في الجملة ، ولو قال لامرأة زنيت وأنت مكرهة أو معتوهة أو مجنونة أو نائمة - لم يكن قذفا ; لأنه نسبها إلى الزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها ، فكان كلامه كذبا لا قذفا ، وبمثله لو قال لأمة أعتقت : زنيت وأنت أمة ، أو قال لكافرة أسلمت : زنيت وأنت كافرة - يكون قذفا وعليه الحد ; لأن في المسألة الأولى قذفها للحال بالزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها ، فكان كلامه كذبا لا قذفا ، وفي المسألة الثانية قذفها للحال لوجود الزنا منها في حال يتصور منها الزنا وهي حال الرق والكفر ; لأنهما لا يمنعان وقوع الفعل زنا ، وإنما يمنعان الإحصان .

                                                                                                                                والإحصان يشترط وجوده وقت القذف ; لأنه السبب الموجب للحد وقد وجد ، ولو قال لإنسان : لست لأمك - لا حد عليه ; لأنه كذب محض ; لأنه نفي النسب من الأم ونفي النسب من الأم لا يتصور ، ألا ترى أن أمه ولدته حقيقة ، وكذلك لو قال له : لست لأبويك ; لأنه نفي نسبه عنهما ولا ينتفي عن الأم ; لأنها ولدته فيكون كذبا ، بخلاف قوله : لست لأبيك ; لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم ، بل هو نفي النسب عن الأب ، ونفي النسب عن الأب يكون قذفا للأم ، وكذلك لو قال له : لست لأبيك ولست لأمك في كلام موصول - لم يكن قذفا ; لأن هذا وقوله : لست لأبويك سواء .

                                                                                                                                ولو قال له : لست لآدم أو لست لرجل أو لست لإنسان - لا حد عليه ; لأنه كذب محض ; لأن نسبه لا يحتمل الانقطاع عن هؤلاء فكان كذبا محضا لا قذفا فلا يجب الحد ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لرجل : يا زانية ، أنه - لا يكون قذفا عندهما ، وعند محمد يكون قذفا .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن " الهاء " قد تدخل صلة زائدة في الكلام ، قال الله - تعالى عز شأنه - خبرا عن الكفار { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } ومعناه : مالي وسلطاني " والهاء " زائدة ; فيحذف الزائد فيبقى قوله : يا زاني ، وقد تدخل في الكلام للمبالغة في الصفة ، كما يقال : علامة ونسابة ونحو ذلك فلا يختل به معنى القذف ، يدل عليه إن حذفه في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف ، حتى لو قال لامرأة : يا زاني - يجب الحد بالإجماع ، فكذلك الزيادة في نعت الرجل ، ولهما أنه قذفه بما لا يتصور فيلغو ، ودليل عدم التصور ; أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين ; لأن " الهاء " في الزانية " هاء " التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها ، وذلك لا يتصور من الرجل بخلاف ما إذا قال لامرأة : يا زاني ; لأنه أتى بمعنى الاسم وحذف " الهاء " وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحو ذلك ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية