الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تعثرت دراستي بسبب حاجتي الملحة إلى الزواج، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جزاكم الله خيرًا على جهودكم.

أنا فتاة عمري 23 سنة، أشعر بحاجة ملحة إلى الزواج من ناحيتين: الأولى: أن هناك حاجة نفسية له، فأريد أن أطمئن مع شخص، وأشعر معه بالاستقرار؛ لأني فعلاً أشعر أني تائهة، ومن ناحية أخرى لدي حاجة جسدية، ومن شدة ذلك لا أستطيع الصبر، أنام على صوت القرآن، فأشعر أن رغبتي تخمد، ومن شدة خوفي أن أقع في الحرام، أفكر مرات أن أحرق يدي، حتى لا تطاوعني نفسي على فعل أمر سيء.

كنت من قبل أدرس بجد، ودخلت إلى كلية الهندسة، ونجحت في ثلاث سنوات منها، وبقي لي عامان، لكني في هذا العام أخذت رخصة طبية، ولم أستطع أن أدرس، بسبب أني لا أشعر بالفائدة مما أدرسه، وأنا أهدف إلى شيء آخر، أريد زوجًا صالحًا، وأن أكون أمًا وزوجة صالحة، أريد أن أتفرغ لزوجي وأبنائي، والدعوة إلى الله.

إن تزوجت الآن سأتم آخر عامين لي بفرح؛ لأني سأشعر أني قوية، ولدي شخص يحبني ويدعمني، ولكن إذا لم أتزوج أقولها صدقًا، سيمر علي كل يوم كألف سنة، أهلي منشغلون، وأنا ألزم البيت كثيرًا، خاصة بعد أخذي الرخصة الطبية بسبب نفسيتي.

لقد كان هناك شخص يريدني، ولكنه من بلد آخر، ومتزوج، فلم يحصل نصيب؛ لأنني أغار، وليس لدي استعداد نفسي لهذا الأمر، ولكنه حاول الوصول إلي من خلال معارفي، ولما كنت أرفض، كنت أتلقى الأذية من صديقاتي، والله سبحانه يريني في منامي رؤى متكررة لأشخاص يريدون أذيتي، والله سبحانه ألهمني ما يجب أن أفعله، ولكني أشعر أني لست في مأمن.

أفتوني في أمري، فإني أراجع القرآن والدمع ينزل مني، كلما مررت بآية أصبحت أشعر بها أكثر مما كنت أستشعرها من قبل، أحاول أن أصلي النوافل، ولكن أحيانًا لا أستطيع بسبب نفسيتي، أشعر بضعف شديد، وأكتفي بالفرائض، أستيقظ قبل الفجر، وأجد أن القارئ الذي نمت عليه يقول: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم..).

هناك أشخاص لم أتسبب لهم في أذى، الله ألهمني أن أقرأ خواتيم سورة البقرة، وعلمني دعاءً في منامي جاء في أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقوله بعد أن رأيت تلك الرؤيا، وواحدة من الذين كانوا يريدون أذيتي قالت لي يومًا أن أقول لها الأذكار التي أقولها. الحمد لله، ربي وخالقي أشعر أنه وليي، أشعر بأنه يدافع عني، أنا أحبه، وددت أن أكون الآن في جنته، وهو راض عني؛ لأني لم أعد أحب الدنيا، لدي شغف كبير أن أنصر ديني، أريد أن أفرح والدّي، وأساعد الناس، لكني تعبت، والله المستعان.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أيتها الفاضلة- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرزقك الزوج الصالح الذي يسعدك في الدنيا والآخرة.

أختنا الكريمة: قرأنا رسالتك أكثر من مرة، وفهمنا منها ذاك الاضطراب بين المرغوب والمحجوب، قرأنا فيها شدة حبك لدينك وحرصك عليه، قرأنا فيه حبك لله عز وجل وخوفك من إغضابه، قرأنا فيها حرصك على فهم الرسائل التي تأتي وكيفية توجيهها الوجهة الصحيحة، وعندما وصلنا إلى حديثك عن استيقاظك على صوت القارئ، وهو يقرأ قول الله (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم )، كنا نود ساعتها أن تكملي الآية؛ لأن في ختام الآية البشرى لكل مكلوم، دعينا -أختنا- نذكر لك الآية كاملة، ثم نشرحها لك، يقول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، والمعنى كما قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم; ولهذا قال:(ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء) وهي: الأمراض، والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.

قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومرة الهمداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان: ( البأساء ) الفقر. قال ابن عباس: (والضراء) السقم.

( وزلزلوا ) خوفًا من الأعداء زلزالاً شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه". ثم قال: " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".

وقال الله تعالى: (الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [ العنكبوت : 1 3 ].

وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة -رضي الله عنهم- في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا)، الآيات [ الأحزاب : 10 - 12 ].

ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت حربه وحربكم؟ قال: كانت دولًا سجالاً، يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى. قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.

وقوله:(مثل الذين خلوا من قبلكم) أي: سنتهم. كما قال تعالى:( فأهلكنا أشد منهم بطشًا ومضى مثل الأولين)[الزخرف : 8 ] .
وقوله:(وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)، أي: يستفتحون على أعدائهم، ويدعون بقرب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: ( ألا إن نصر الله قريب)، كما قال: ( فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا) [ الشرح : 5 ، 6 ].

وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها; ولهذا قال تعالى:(ألا إن نصر الله قريب)، وفي حديث أبي رزين: " عجب ربك من قنوط عباده، وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجهم قريب".

أختنا الكريمة: الدنيا وإن طالت قصيرة، ونعيمها وإن عظم حقير، والعاقل من يستزرع الدنيا للآخرة، ومن يتعب هنا ليرتاح هناك، ومن سنن الله في الأرض وجود الابتلاء، الجميع -أختنا- لا بد أن يأخذ حظه منه، تلك طبيعة الدنيا، وقد أحسن القائل:
ثمانية لا بـد منها على الفتى *** ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم, واجتماع وفرقة *** وعسر ويسر, ثم سقم وعافية

نعم هذه هي الحياة وتلك طبيعتها كما قال الشاعر:
جبلت على كدر وأنت تريدها ،،، صفواً من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ،،، متطلبٌ في الماء جذوة نار
فالعيش نوم والمنية يقظة ،،، والمرء بينهما خيال سار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ،،، تبني الرجاء على شفير هار

وقد قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، فما أنت فيه -أختنا- نعمة وعافية، إذا أحسنت الصبر عليه.

على أن هناك أمرًا ينبغي ألا تغفلي عنه، وهو أن أشد الناس بلاء أكثرهم صلاحًا، إما رفعًا لدرجتهم أو تكفيرًا لبعض ذنوبهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه"، وهو بهذا المعنى خير للمؤمن ، قال صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن: إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"، ولا يصلح مع البلاء إلا الرضا بالقضاء، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط، ولا يغير هذا من قدر الله شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم: "عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ "، فالابتلاء -أختنا الكريمة- دليل عافية.

هذه القواعد متى ما تحققت عندك كعقيدة، أدركت أنك في نعمة، وأن الله اختار لك ما هو خير لك، وفي الآية السابقة ما يدل على ذلك.

أختنا الكريمة: قد منّ الله عليك أنك لم تتسببي في إيذاء أحد، وأكرمك الله بالقرآن والمحافظة على الأذكار، وهذا دليل عافية إذا ما أحسنت شكر المنعم، وحافظت عليها، بل وجاهدت في المحافظة عليها، فالجنة درة ثمينة، والبذل لها عظيم.

وأما مسألة الزواج ورغبتك فيه، فهذا أمر طبيعي، وتمنى الزوج الصالح كذلك أمر طبيعي، لكن كل شيء بأجل وكتاب، فلا تتعجلي أمرًا لم يأذن الله فيه، ولا تطلبي عطاءً لم يحن وقته، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

مشكلتك -أختنا- هذه هي مشكلة المئات من الأخوات الكريمات، ونحن نقول لهن ولك:

- الزواج رزق مقسوم، وقدر مكتوب، معلوم زوجك من قبل أن يخلق الله السموات والأرض، ففي الحديث رواه مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات، وكان عرشه على الماء "، وهذا يهدئ روعك، فمن كتبه الله لك زوجًا سيأتي في الوقت الذي حدده الله لك، وأنت معززة مرفوعة الرأس.

- هذا الاعتقاد يطمئنك -أختنا- فإذا أضفت إليه أن قضاء الله هو الخير لك، وأن ما قدره الله لك من عطاء هو خير مما أردتيه لنفسك، فسيهدأ روعك، ويسكن فؤادك، فاطمئني، وذكري نفسك دائمًا أن الله يختار لعبده الأصلح والأوفق له، وقد علمنا القرآن أن العبد قد يتمني الشر، وهو لا يدري أن فيه هلكته، وقد يعترض على الخير، ولا يعلم أن فيه نجاته، قال تعالي:" وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"، فكوني على يقين بأن اختيار الله لك هو الأفضل دائمًا، وهنا سيطمئن قلبك ويستريح، وقد يكون ما تظنينه اليوم شرًا هو الخير.

أختنا الكريمة: رغبتك في إحراق نفسك ليست الحل، بل قد تزيد المشكلة عندك، وإنما الحل فيما يلي:
- الإيمان التام والتسليم لله عز وجل في أن اختيار الله هو الخير لك، وأن الله سيكرمك ما تمسكت بدينه.

- إشغال وقتك بالعلم والعمل، والذكر والدعاء، والدعوة والإصلاح، كل هذا من العمل الصالح، فلا تنشغلي عنه، ولا تتركي نفسك صريعة شيطان في وقت فراغ وخلوة، احذري ذلك -أختنا الكريمة-.

- كثرة الصيام لله عز وجل، فهي من المعينات على الطاعة.
- الصحبة الصالحة مهما كانت قليلة، فهي ثمينة، فاحرصي عليها.

- كثرة الدعاء لله عز وجل أن يرزقك الخير، وأن يسعدك، فالدعاء سهم صائب متى ما خرج من قلب صادق، ونحن نسأل الله العلي القدير أن يرزقك الرضا عنه، وأن يمتعك بطاعته وعبادته، وأن يرزقك زوجًا صالحًا برًا تقيًا يعينك على أمر دينك ودنياك، والله المستعان.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً