الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث الدجال دلالة على ثبوت صفة العينين لله تعالى

السؤال

استدل بعض أئمة السنة على إثبات العينين لله بقوله صلى الله عليه وسلم في الدجال: إن ربكم ليس بأعور، وإن الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية.
فأسألك يا شيخ: أين وجه الدلالة؟؟؟ وهل يحق للجهمية أن يستدلوا بهذا الحديث أن الله تعالى في الأرض؛ لأن الرسول لم يقل إنكم ستعرفون أنه دجال لأنه في الأرض بينما الله على السماء؟؟
ألا يعقل أن يكون القصد أن الله ليس بأعور، بمعنى أن العور صفة نقص وأن الله كل صفاته كمال؟؟؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد استشهد جمع من الأئمة، وأهل العلم، بحديث الدجال على إثبات صفة العينين لله سبحانه، على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل. منهم الإمام أبو سعيد الدارمي في نقضه على المريسي حيث قال: العور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين. اهـ.
وقال في موضع آخر: ففي تأويل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليس بأعور" بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور .اهـ.
وكذلك فعل ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) وأبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين)، ونقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم في مواضع من كتبهما. وكذلك فعل المعاصرون من أهل العلم.

قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي: صفة العينين ثابتة لله تعالى كما يليق بكماله، ولا يوجد واحد من الأولين من الصحابة نفى عن الله تعالى صفة العينين، ويدل على إثباتها حديث الدجال، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» وهذا منطوق صريح وليس مفهوما. اهـ.
وقال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي في أطروحته للدكتوراة: (البيهقي وموقفه من الإلهيات): المعروف من منهج السلف أنهم حينما يثبتون الصفة لله تبارك وتعالى عند ورود النص بها، فإنما يثبتونها على معناها الظاهر المتبادر منها، مع نفي التشبيه والمماثلة بين صفات الله وصفات خلقه، وبيانه صلى الله عليه وسلم للعلامة التي نعرف بها الدجال حين ادعائه الألوهية، وهي وجود نقص فيه منزه ربنا سبحانه عنه، وهو أنه أعور عين اليمنى، فإن المتبادر إلى الذهن لأول مرة أن الله تبارك وتعالى له عينان خلافاً للدجال الذي عورت عينه اليمنى، والعور المعروف في اللغة هو ذهاب حس إحدى العينين، وإثباتنا لذلك إنما هو إثبات وجود وكمال، لا إثبات تشبيه. اهـ.
وممن فصَّل في ذلك الشيخ ابن عثيمين حيث قال: وجه الاستدلال به ظاهر جدا؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يبين لأمته شيئا مما ينتفي به الاشتباه عليهم في شأن الدجال في أمر محسوس، يتبين لذوي التفكير العالمين بالطرق العقلية وغيرهم، بذكر أن الدجال أعور العين، والرب سبحانه ليس بأعور، ولو كان لله تعالى أكثر من عينين لكان البيان به أولى لظهوره وزيادة الثناء به على الله تعالى، فإن العين صفة كمال فلو كان لله أكثر من اثنتين كان الثناء بذلك على الله أبلغ. وتقرير ذلك أن يقال: ما زاد على العينين فإما أن يكون كمالا في حق الله تعالى أو نقصا، فإن كان نقصا فهو ممتنع على الله تعالى لامتناع صفات النقص في حقه، وإن كان كمالا فكيف يهمله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كونه أبلغ في الثناء على الله تعالى!! فلما لم يذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم أنه ليس بثابت لله عز وجل، وهذا هو المطلوب. فإن قيل: ترك ذكره من أجل بيان نقص الدجال بكونه أعور. قلنا: يمكن أن يذكر مع بيان نقص الدجال فيجمع بين الأمرين حتى لا يفوت ذكر كمال صفة الله عز وجل. واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذه العلامة الحسية ليبين نقص الدجال، وأنه ليس بصالح لأن يكون ربا، ولظهورها لجميع الناس؛ لكونها علامة حسية بخلاف العلامات العقلية، فإنها قد تحتاج إلى مقدمات تخفى على كثير من الناس، لا سيما عند قوة الفتنة، واشتداد المحنة، كما في هذه الفتنة فتنة الدجال، وكان هذا من حسن تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث يعدل في بيانه إلى ما هو أظهر وأجلى مع وجود علامات أخرى. اهـ.
وفي هذا جواب لبقية سؤال الأخ السائل. فلا شك أن مجرد وجود العور ـ الذي هو صفة نقص ـ يدل على كذب الدجال في دعواه الربوبية والألوهية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكتف بمجرد بيان عوره، بل فصَّل في ذلك وبيَّن في أيِّ عينيه العور، وزاد البيان بأن الله ليس بأعور، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية. متفق عليه. وزاد مع ذلك الإشارة إلى عينه، كما في رواية البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، في باب قول الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {طه:39}. ولفظها: إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور ـ وأشار بيده إلى عينه ـ وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية.
وأما إمكانية استدلال الجهمية بحديث الدجال على أن الله تعالى في الأرض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنكم ستعرفون أنه دجال لأنه في الأرض، بينما الله على السماء؟؟
فيكفي في ردها ما سبق نقله عن الشيخ ابن عثيمين في بيان علة اختيار العور لإثبات كذب الدجال، ونحو ذلك ما قاله النووي في (شرح مسلم): أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ليس بأعور، والدجال أعور" فبيان لعلامة بينة تدل على كذب الدجال دلائل قطعية بديهية يدركها كل أحد، ولم يقتصر على كونه جسما أو غير ذلك من الدلائل القطعية؛ لكون بعض العوام لا يهتدي إليها. اهـ.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة؛ لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي، ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية، فإذا ادعى الربوبية وهو ناقص الخلقة، والإله يتعالى عن النقص، علم أنه كاذب. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني