الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهمية الثبات والعزيمة للحفاظ على الإيمان

السؤال

لا أعرف ما إذا كانت إجابتكم لهذا السؤال ستأتي بنتيجة معي أم لا، حيث ضاق بي الحال: فمنذ خمسة أشهر حتى الآن وأنا في حرب نفسية مع أمراض القلوب والذنوب وغيرها، وفي بدايتها من ضيق الصدر، أصبحت أتكاسل عن العبادة بشدة حتى الآن، ولم تفلح فتاواكم معي من قبل في علاج الفتور، فإنكم تقولون رفقة صالحة، ولا توجد في حالتي تلك الرفقة، وتقولون بالاجتهاد في الطاعات وأنا في تكاسل مميت عنها والبعد عن البيئة السيئة، وأنا أعيش في محيطها، والعلم النافع، وأنا في تكاسل عنه، وعندما أرى أنني أفعل الواجبات وأبتعد عن المحرمات والأمر بالمعروف يأخذني الأمن من مكر الله ومن عذابه، فإنني حقا مصاب بالأمن من مكر الله، ومن حولي ينظرون إلي وكأنني ولي من أولياء الله، ولا أستبعد وضع أعينهم علي، فقد تبين لي أن نفوسهم لا تقاوم عدم إصابة الناس بالعين، ويصيبون بها، ومن الممكن أن أُصاب باستمرار بأعينهم، وأخذت بالرقية في علاج ضيق الصدر، ولكنني لا أجد انشراحا في صدري نهائيًا، وأستمر في الدعاء ولكن الاستجابة تتأخر منذ الفترة الأخيرة، ولا أجد شيئا، وتقولون تدبر القرآن، واللغة العربية الأصيلة التي نزل القرآن بها انتهت ومحيت من الوجود، فنحن نقرأ القرآن ولا نفهم الكثير من معانيه، فإن أردت تدبر القرآن كله فعليّ قراءة تفسير ميسر للقرآن في وقت محدود حتى آخذ بالعلاج، وفعل هذا الأمر ليس بالفوري، وأمراض القلوب أريد علاجها، فقد عششت في قلبي وخاصة العجب والغرور والكبر وحب التصدر وعشق الكلام والتدخل فيما لا يعنيني مع ما ذكرته من قبل، ولا أحد يشعر بي، فأنا في عالم، والناس في عالم، والكل يظن أنني سعيد، أريد أن أفرح كفرحي عند أيام هدايتي الأولى، والآن مهما قلت وفعلت ونفذت لا أفلح، ومهما أردت الصلاح ومجاهدة النفس أشعر أنه شيء شبه مستحيل، فليس الدين أن أصلي الصلوات وأصوم الفرض، وبهذا أكون في أمان وأطمئن لحالي، بل أنا على الحافة، ضعفت عقيدتي وانحدرت قوتها وهمتي وإيمانياتي وأيضًا أشعر أن الله أزاغ قلبي، أشعر أنه ختم على قلبي ويستدرجني، والقرآن الذي كنت أحفظ منه ـ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة ـ ربما نسيتهن، ومهما حاولت أن أسترجع حفظي لا أُوفق، ولا أستطيع أن أستعيد قوتي من جديد، وأشعر أنني منافق، وأحترق مما يصبني والذي يغضبني أن هذا حالي ويظن الناس أنني سعيد وأنني مثل السابق، وعندما هداني الله عند صفاء قلبي في البداية وبعد مرور فترة رأيت ممن في مدرستي محبة لي وعلموا أن الله قد هداني وأنني ـ والحمد لله ـ أتقرب إليه وأن لي في وسطهم قبولا، ثم بعد ذلك بفترة قال لي شيخ إن هذا من عاجل بشرى المؤمن، وحينها لم أصب بعجب كما أصبت به الآن، بل عندها تعجبت وأخذتني نشوة ثم استمر حالي في تقدم ولم أصب بعجب، أما الآن لو قيل لي ذلك فسيأخذني العجب والغرور، أريد أن أقرأ أذكار الصباح والمساء، وأن أقوم وأصلي بالليل وأريد انشراح الصدر، وأريد السعادة وأن أعيش مع القرآن.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يغفر لك ذنبك، وأن يلهمك رشدك، وأن يقيك شر نفسك، وأما ما تسأل عنه، أو بالأحرى ما تشكو منه فليس سببه الجهل لتسأل عن علاجه، فإنك ذكرت ما ينبغي عليك فعله وتركه! وإنما الآفة في عدم الثبات، وضعف العزيمة وقلة الصبر!!! وبداية الطريق: أن تعرف قدر نفسك، وتقدر ربك حق قدره، فتعرف نفسك بالضعف والعجز والذلة، وتعرف ربك بالقوة والقدرة والعزة، فتصدق في التوكل عليه، والإنابة إليه، والاستعانة به، وحسن الظن فيه وأول ما يترجم ذلك أن تلح في الدعاء وتتضرع في المسألة، ولا تستعجل الإجابة، وعليك بهذه الكلمات المباركات، فعن شداد بن أوس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا شداد بن أوسٍ! إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فأكثر هؤلاء الكلمات: اللهم! إني أسألك الثبات في الأمرِ، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتِك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرُك لما تعلمُ، إنك أنت علامُ الغيوب. رواه الطبراني وغيره، وصححه الألباني بطرقه الصحيحة: 3228.

والسر في مطلع هذا الدعاء أن المرء قد يعرف ما يضره فيأتيه، ويدرك ما ينفعه فيتركه، ويعلم ما يصلحه فيخالفه، ولهذا يحتاج إلى الثبات والعزيمة حتى يفلح، قال المناوي في فيض القدير: قال الطيبي: العزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر ـ وقال غيره: العزيمة القصد الجازم المتصل بالفعل، وقيل: استجماع قوى الإرادة على الفعل، والمكلف قد يعرف الرشد ولا عزم له عليه، فلذلك سأله. اهـ.

وقال ابن القيم في عدة الصابرين: الدين مداره على أصلين: العزم، والثبات، وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن النبي: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ـ وأصل الشكر صحة العزيمة، وأصل الصبر قوة الثبات، فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق. اهـ.

وقال في طريق الهجرتين: الصبر سبب في حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة، فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها، فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ـ ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر. اهـ.

وهذا هو مفتاح علاج شكوى السائل، فهو لا يحتاج إلى من يرشده، بقدر ما يحتاج إلى المجاهدة والصبر والمصابرة والمرابطة لينال الفلاح والهداية، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {آل عمران: 200}.

وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت: 69}.

وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {محمد: 31}.

وأما أمراض القلوب التي ذكرتها من العجب والغرور والكبر ونحو ذلك، فراجع في علاجها الفتوى رقم: 113895، وما أحيل عليه فيها.
وراجع في كيفية علاج الحسد والعين الفتاوى التالية أرقامها: 3273، 48991، 24972.

وراجع في الأمن من مكر الله وكيفية الحذر منه، الفتويين رقم: 137633، ورقم: 122280.

وراجع للأهمية ما أحيل عليه في الفتوى رقم: 114310.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني