الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة في تأخير رسالة الإسلام وجعلها آخر الرسالات السماوية

السؤال

لدي صديق غير مسلم، وهو يسألني هذا السؤال دائماً: لماذا لم يرسل الله سبحانه وتعالى النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وينزّل القرآن منذ بداية البشرية: أي لماذا لم يأت بشرائع الإسلام من البداية حتى لا يختلف الناس بعد ذلك؟ وجزاكم الله خير الجزاء على ما تقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين، ورفع منزلتكم في الجنة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فكأن صاحب هذا السؤال يتصور أن الخلاف الحاصل بين الناس كان سيزول ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ بداية البشرية! وهذا التصور ليس بصحيح، لأن الله تعالى فطر عباده على التوحيد، وابتدأ البشرية على الأرض بنبيٍّ مكلَّم ـ وهو آدم عليه السلام ـ ومع هذا اختلف الناس في الأصول والفروع، قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {البقرة: 213}.

قال السعدي: لما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف، فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات، والأدلة القاطعات، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا. اهـ.
ويدل على ذلك أيضا قوله سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ {آل عمران: 19}.

وقوله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {الشورى: 13ـ 14}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. رواه مسلم.
فالخلاف بين البشر حقيقة واقعة على أية حال، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ {هود: 118ـ119}.

وقد سبق لنا بيان الحكمة من ذلك في الفتوى رقم: 34493.
هذا أولا.

وثانيا: فإن جميع الأنبياء والرسل وإن اختلفت فروع شرائعهم، إلا أن دينهم جميعا هو الإسلام، بمعنى إسلام الوجه لله تعالى بالتوحيد والطاعة، فالرسالات السماوية وإن كانت مختلفة في تفاصيل الشرائع وفروعها، إلا أنها متفقة في كلياتها ومبادئها وقواعدها وأهدافها، وقبل ذلك متفقة في الأصل الأهم، وهو التوحيد وإسلام الوجه لله عز وجل، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 97132، 184929، 39852.

وقال الدكتور عمر الأشقر: الكتب السماوية تقرر القواعد العامة التي لابدّ أن تعيها البشرية في مختلف العصور كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أنّ الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعى غيره... ومما اتفقت فيه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته وإزالته، سواءً أكان عبادة أوثان، أو استعلاء في الأرض، أو انحرافاً عن الفطرة كفعل قوم لوط، أو عدواناً على البشر وأحوالهم بقطع الطريق والتطفيف بالميزان ... وإذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحداً وهو الإسلام، فإن شرائع الأنبياء مختلفة... وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج، وأخذ الطعام من حلّه وغير ذلك والاختلاف بينها إنّما يكون في بعض التفاصيل، فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها ومقادير الزكاة ومواضع النسك ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحلّ الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة. اهـ.
وأما لماذا تأخرت البعثة النبوية حتى ختمت بها الرسالات: فهذا هو مقتضى عموم الرسالة المحمدية، وخصوص ما سبقها من الرسالات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر منها ـ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. رواه البخاري ومسلم.
ولا يخفى أن الرسالة الشاملة لعموم البشرية، بل للثقلين جميعا، إذا ابتدئ بها فلن يكون لما بعدها معنى، بل سيكون تقديمها بمثابة تقديم الناسخ على المنسوخ! وقد سبق أن أشرنا إلى أن البشرية مرت بمراحل وكانت الشرائع تناسب أحوالها، ثم ختم الله الشرائع بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لمناسبتها لهذا الختم من وجوه، قال الدكتور عبد الكريم زيدان في أصول الدعوة: إنما ختمت الرسالة برسالة الإسلام الخالدة، لكمالها ووفائها بحاجات البشر إلى يوم القيامة. اهـ.
وراجع في ذلك الفتوى رقم: 114633.

وقال المراغي في تفسير: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ـ أي إن الله خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلح لهم، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. اهـ.

وجاء في كتيب الحاجة إلى الرسل المنشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية: دعوة الرسل جميعا تقوم على التوحيد الخالص لله تعالى، إلا أن كل رسول يختص بتقويم الانحراف الحادث في عصره وموطنه، ذلك أن الانحراف على الصراط المستقيم يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان... ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جاءت رسالته عامة شاملة لكل أسس التقويم والهداية التي جاءت في الكتب السماوية وزائدة عليها حتى تكون صالحة لكل زمان ومكان... وسبب آخر لختم الرسالات بالإسلام هو أن الأمم على عهد الرسل الأولين تعيش في عزلة لا تقارب بينهما ولا اتصال إلا على الوسائل البدائية، لكن الوضع تغير كثيرا بعد رسالة محمد عليه السلام، فأصبحت المسافات مطوية والاتصال الأممي واقع ـ لا سيما في العهود المتأخرة ـ مما جعل حمل الرسالة إلى جميع من في الأرض متاحا فاقتضت حكمة الله تعالى ختم الرسالات بالإسلام، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ـ وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني