الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ليس هناك تعارض بين توفيق الله للمؤمن وبين تقدير الابتلاء عليه

السؤال

لدي تضارب في مبدأين هما:
أن الله يوفق المؤمن، قال تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب".
وأن الشخص المتقي لله يبتلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر المبتلين الأنبياء، ثم الصالحون… الخ.
فقد فهمت أن المؤمن يبتلى، ولكنه أيضًا يوفق، وأتمنى التوضيح.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فليس هناك تضارب، ولا تعارض بين قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2-3}، وبين ما جاء عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني كذلك: حسن صحيح، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط.

وليس هناك تعارض بين توفيق الله للمؤمن، وبين تقدير الابتلاء عليه، بل في تقدير الله الابتلاء على المؤمن خير له؛ فإن الابتلاء تارة يكون لتكفير الخطايا، ومحو السيئات، وتارة يكون لرفع الدرجات، وزيادة الحسنات، وتارة يقع لتمحيص المؤمنين، وتمييزهم عن المنافقين، وتارة يعاقب المؤمن بالبلاء على بعض ذنوبه، كما سبق بيانه في الفتويين: 27048، 182695.

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرًا يصب منه. رواه البخاري.

ويبين الإمام ابن القيم هذا الأمر غاية البيان إذ يقول -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة: وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته، بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان ... وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله مِن نعمة جسيمة، ومنَّة عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان.

فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته من الاصطفاء، والاجتباء، والتوبة، والهداية، ورفعة المنزلة ...

وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض بدعوته، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل, وأمَر رسولَه ونبيه محمَّدًا أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشكر فقال: (إنه كان عبدًا شكورًا) فوصفه بكمال الصبر، والشكر.

ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره، وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه، ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلًا لنفسه ... وضاعف الله له النسل، وبارك فيه، وكثر حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم ...

ثم تأمل حال الكليم موسى -عليه السلام-، وما آلت إليه محنته، وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلَّمه الله تكليمًا، وقرَّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السماوات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون، وجرَّه إليه، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله، وربه يحبه على ذلك كله، ولا سقط شيء منه من عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق، وتحمل الشدائد والمحن العظام في الله، ومقاسات الأمر الشديد بين فرعون وقومه، ثم بني إسرائيل، وما آذوه به، وما صبر عليهم لله، لم يكن ذلك.

ثم تأمل حال المسيح -صلى الله عليه وسلم-، وصبره على قومه، واحتماله في الله، وما تحمله منهم حتى رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطَّعهم في الأرض، ومزَّقهم كل ممزق، وسلبهم ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر ...

فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتأملت سيرتَه مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه، وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول، والفعل، والسحر، والكذب، والافتراء عليه، والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يعط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.

وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله، بحسب متابعته له. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني