الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

من فضلكم أجيبوني على حسب حالتي، لماذا تشددون في أمر قاطع الرحم، خصوصا إذا كان هناك سبب كبير يدفعني لذلك؟ لماذا لا يستجاب دعائي؟ الله- سبحانه وتعالى- يستجيب دعاء العصاة، حتى إبليس -عليه اللعنة- استجاب الله لدعائه، وأجله ليوم الدين؟ لماذا تقولون إن دعاء قاطع الرحم لا يستجاب؟ أين الدليل؟
أنا دائما أدعو وأشعر أن دعائي مستجاب، وأشعر أنني موفقة في الدعاء، فمن قبل لم أكن أدعو كثيرا، ولكن منذ سنة بدأت أكثر الدعاء، ومن علامات استجابة الله -سبحانه- للعبد، أن يلهمه الدعاء.
فهل العاصي لا يستجاب له؟ وماذا عن إبليس عليه اللعنة؟
ثم إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. والله يعلم ما في قلبي، ويعلم أني أريد أن أرضيه، لكن الأمر ليس بيدي.
أمي وأبي منفصلان قبل ولادتي، وأعيش في بيت جدي من الأم. وحدثت مشاكل كبيرة بسبب الأب، وجدي وجدتي وأمي تحملوا كل ذلك، وجدي الآن كبر ومرض، والأب ليس جيدا لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الدنيوية، فهو لا يسأل عنا ولا يهتم لأمرنا. أنا وأختي. لم ينفق علينا أصلا، فقط أمي هي المتكفلة بنا، وجدي وجدتي وخالتي، بل إنه لما كان يأخذنا عن طريق المحكمة فقط لإغاظة أمي، كان يهددنا طول الطريق ونحن صغيرتان عمرنا 12 سنة، بأن يقتلنا ويقتل أمنا، ولا نأكل ولا نشرب حتى يعيدنا لأمي. كنت أظل أبكي أنا وأختي خوفا من أن نموت ولا نرى أمنا. وآخر مرة ذهبنا معه قال لنا: خلاص هذه النهاية، واليوم سآخذكما وأعمل بكما حادثا، ولولا ستر الله أني هربت منه أنا وأختي، لكان فعلا حدث ذلك.
ثم إنني لا آمن على نفسي وأختي منه، فتاريخه غير طيب، ولا أريد أن ألتقي به خوفا من أن يرجع ويسبب لنا الآلام، وجدي الآن مريض.
فهل هذا جزاء جدي أن أجلب له المشاكل في هذا العمر؟ لا والله، إنه إنكار للجميل، أهله ضربوا جدي، وكما قلت أنا أشعر أن الله وفقني لأعمال الخير، الحمد لله، فتح لي أبواب الطاعات، أبواب القرآن، أنا أشعر بذلك، والحمد لله لا يستطيع أحد أن يثبت لي عكس ذلك، فأنا أشعر بقرب الله.
ثم إن الشيخ مصطفى العدوي- بارك الله فيه- أراحني وقال إن هذا لا علاقة له بالأمر، ولم يرد لا في كتاب الله ولا في السنة، ولم يسمع عنه عند كبار الأئمة. فلماذا تقنطونا من رحمة الله؟
وجاء في الحديث أن الله -سبحانه وتعالى- يستجيب لدعاء المسلم ما لم يكن فيه إثم. بمعنى لا يدعو بمعصية، ولا قطيعة رحم. بمعنى لا يدعو على رحمه. ولم يستثن قاطع الرحم، بل استثنى الدعاء على الرحم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإننا أولا نهنئك على ما أنعم الله به عليك من التوفيق لأعمال الخير، وفعل الطاعات، والاهتمام بالقرآن، ونسأله -سبحانه- أن يزيدك هدى وتقى وصلاحا.

ونحن إنما نشدد في أمر قطيعة الرحم، حيث وردت النصوص بالتشديد فيها، ومن ذلك ما جاء في كونها توجب قطيعة الله -سبحانه- كما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ.

وقد يدخل في هذه القطيعة عدم إجابة الدعاء، وعلى وجه العموم فإن قطيعة الرحم كسائر المعاصي يمكن أن تكون مانعا من إجابة الدعاء.

وقد جاء في أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ما يدل على أن قطيعة الرحم خاصة يمكن أن تمنع من إجابة الدعاء.

روى الطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان، عن الأعْمَشِ قال: كان ابنُ مسعودٍ جالِسًا بعدَ الصُّبح في حَلقَةٍ، فقال: أَنْشُدُ اللهَ قاطعَ رَحِمٍ لَمَا قام عنَّا، فإنَّا نريدُ أَنْ نَدْعُوَ ربَّنا، وإنَّ أبوابَ السماءِ مُرْتَجَةٌ دونَ قاطعِ رَحِمٍ. ولكن الشيخ الألباني قد ضعّفه.

ويكفي ما سلف من بيان كونها قد تمنع إجابة الدعاء كغيرها من المعاصي، ويستأنس بأثر ابن مسعود؛ لكونه يؤكد ذلك العموم.

وهذا كله لا يعني أن يترك المسلم الدعاء، فمهما كان مسرفا في المعاصي، فليدع، وليحسن الظن بربه.

قال سفيان بن عيينة: لا يمنعنّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله -عز وجل- أجاب دعاء شر الخلق إبليس -لعنه الله- إذ قال: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الحجر:36-37]. اهـ.

والواجب المبادرة للتوبة، فإن ذلك يجعل الدعاء أرجى للإجابة.

وإن صح ما ذكرت عن أبيك من تفريطه في أمر الإنفاق عليكما ورعايتكما، وما كان منه من إيذاء لكما، فهو بذلك قاطع لرحمه ومسيء إساءة بالغة، وآثم إثما مبينا. روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثما، أن يضيع من يقوت.

ولكنه يبقى أباً، وإساءته لا تسقط عنكما وجوب بره وصلته، وسبق بيان ذلك في الفتوى: 430867.

وبره يكون بإيصال ما أمكن من الخير إليه.

جاء في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ: إيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِن الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِن الشَّرِّ، بِحَسَبِ الطَّاقَةِ. اهـ.
وإذا كانت زيارته يخشى أن يترتب عليها أذى، فيوصل بما يجري العرف بكونه صلة، ومن ذلك الاتصال الهاتفي مثلا.

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما صلة الرحم: فهي الإحسان إلى الأقارب ـ على حسب حال الواصل والموصول ـ فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. اهـ.

وصلتك لأبيك وبرك به، لا يعني إنكارك لجميل جدك، فلتحفظا لجدكما ما فعل معكما من المعروف، ولتؤديا في الوقت ذاته ما أوجب الله عليكما تجاه أبيكما.
ونوصيكما بكثرة الدعاء لأبيكما بأن يصلح الله حاله، ويرزقه رشده وصوابه، فالدعاء له من أفضل أنواع البر والإحسان، ولعل الله -سبحانه- يجعلكما سببا لصلاحه وهدايته.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني