الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بيع دين آجل بنقد عاجل أقل منه ومن جنسه

السؤال

هناك عدَّة أشخاص يشترون من محلَّات تبيع مواد تموينيَّة، وذلك على سبيل الدَّيْن. فقال لهم صاحب المحل: إذا دفعتم المبلغ نقدًا، فإنكم ستحصلون على خصم.
فقام شخص ثالث بسداد الدَّين؛ ليحصل على الخصم، أي أنَّ الشخص الَّذي يسدد الدَّين هو الَّذي يحصل على الخصم.
هل يجوز ذلك؟ وما الحل الشَّرعيّ؟
أَفتُونا مأجُورين، باركَ اللهُ فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فحقيقة هذه المعاملة أنها بيع دين آجل، بنقد عاجل أقل منه، ومن جنسه، فيجتمع فيه ربا الفضل، وربا النسيئة، كما هو الحال في بيع الصكاك.

وراجع في ذلك الفتاوى: 352006، 138757، 245497.

وبيع الدين المؤجل بأقل من قيمته حالا، لغير من هو عليه، نوع من الربا المحرم عند الجمهور، ومن قال بجوازه اشترط شروطا غير متحققة هنا. ومن أهمها: المماثلة عندما يباع الدين بجنسه، وراجع في ذلك الفتويين: 25114، 115533.

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي، المتعلق بموضوع البيع بالتقسيط: الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين، (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق.

وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز؛ لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية. اهـ.

وهنا دخل بينهما طرف ثالث، وهو الشخص الذي سدد الدين للتاجر ليحصل على الخصم.

وقد تناول مجمع الفقه الإسلامي موضوع بيع الديون، في عدة أبحاث منشورة في العدد الحادي عشر من مجلة المجمع، منها بحث القاضي محمد تقي العثماني، حيث تناول كلام الفقهاء في مسألة بيع الدين لغير من هو عليه، ومنه بيع الكمبيالة، ثم قال: يتلخص مما ذكرنا أن بيع الكمبيالة لا يجوز على قول الحنفية والحنابلة أصلاً، حتى بثمن مساوٍ، وكذلك في مذهب الشافعية الذين يشترطون قبض البدلين في المجلس.

وأما الذين لا يشترطون ذلك، فيجوز بيع الكمبيالة عندهم بشرط أن يكون الثمن مساويًّا لمبلغ الكمبيالة، وهو مذهب المالكية أيضًا.

فتبين بهذا أن حسم الكمبيالة بمبلغ أقل من مبلغها لا يجوز عند أحد من المذاهب الفقهية المعتبرة، فإنه بيع لنقد حال، بنقد مؤجل أقل منه، وهو في معنى الربا.

وهو الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونص قراره: إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم. اهـ.

ثم ذكر تحت عنوان: «بديل حسم الكمبيالات» ثلاث طرق لذلك، الذي يخص صورة سؤالنا منها: أن يبيع البنك إلى حامل الكمبيالة بضاعة حقيقية مقابل الكمبيالة على مذهب المالكية وبعض الشافعية، أو مقابل ثمن يساوي مبلغ الكمبيالة، ثم يقبل حوالته على مصدر الكمبيالة. وبما أن مقابل الكمبيالة بضاعة، فلا بأس أن يبيعه البنك بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح. اهـ.

وقال الأستاذ الدكتور نزيه حماد في بحثه (‌‌بيع الدين: أحكامه -تطبيقاته المعاصرة) تحت عنوان: "توريق الدين النقدي": إذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه -حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء- أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.

وبناءً على ذلك، فلا يجوز توريق دين المرابحة (المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية، أو الأفراد في سوق ثانوية، أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة، وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم. اهـ.

ثم قال: عدم ‌جواز ‌توريق ‌المديونية ‌النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية، لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارساته لأمكننا الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.

وبيان ذلك: أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.. اهـ.

وعلى ذلك، فالبديل المحتمل أو الممكن للمعاملة محل السؤال، أن تجري عن طريق سلعة عينية، أو بضاعة حقيقية، لا عن طريق مبلغ نقدي؛ لكيلا يقع الربا الصريح.

وهذا يكون بأن يبيع هذا الشخص أو الطرف الثالث (الممول) لصاحب المحل (الدائن) بضاعة حقيقية، مقابل ثمن يساوي دينه على العميل (المدين)، ثم يقبل حوالة صاحب المحل على العميل. وبما أن مقابل الدين سلعة أو بضاعة، فلا بأس أن يبيعه الممول بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح.

ولا يخفى عسر تطبيق هذا البديل في صورة السؤال، لعدم تمكن الأفراد مما يمكن للبنوك الإسلامية فعله وضبطه، ومع ذلك فقد وقع خلاف ونقاش كثير بين الفقهاء المعاصرين المشاركين في مجلس المجمع في قضية بيع الديون وإمكان إيجاد بدائل شرعية فيها، ويمكنك الرجوع لها في العدد المذكور من مجلة المجمع.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني