الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من نذر صوم سنة كاملة فهل يلزمه قضاء عن رمضان والأيام المنهي عن صومها

السؤال

قمت منذ سنة بفعل ذنب عظيم، وعاهدت الله -تعالى- على صيام سنة. وكانت نيتي أن السنة متتابعة. وفي نفس الفترة عاهدت الله أيضا أن أصوم الاثنين والخميس في كل حياتي. فدخل رمضان في تلك السنة، ولكن كان في نيتي أن رمضان هذا بالتأكيد يدخل حكمه مع الصيام؛ لأني عاهدت الله. وفي نيتي صيام سنة لحد تاريخ معين، وبعد انتهاء السنة لله الحمد، لم أرتح للإفطار وأكملت الصيام، وأتى رمضان الآخر، وفي نيتي أيضا أن رمضان هو ضمن السنة، فكانت نيتي أني عاهدت الله لتاريخ معين، ولا يهم رمضان.
فما حكم شهري رمضان، علما أنني كنت جاهلا بالحكم الشرعي؟
وهل صيام السنة يدخل مع صيام الاثنين والخميس، أم أفصل الاثنين والخميس، ويحسب لي أنني في صيام السنة كنت أصوم فقط 5 أيام بالأسبوع، ولقد أفطرت بعض الأيام في السنة -هي قليلة جدا- فماذا أفعل؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من عاهد الله على فعل طاعة على وجه الالتزام بها، وجب عليه الوفاء بما التزم به، إذا كان تلفظ بلسانه بلفظ العهد ونحوه، فقد قال الله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {النحل:91}. وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. {الإسراء:34}.

وقال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ. {التوبة: 75، 77}.

وأما إذا كان ذلك مجرد حديث نفس دون نطق باللسان، أو نطقه بما ليس فيه التزام، فلا يلزم من ذلك شيء، كما سبق بيانه في الفتوى: 119553.

وعلى ذلك، فإذا كان عهدك لله -تعالى- بلفظ صيام سنة معينة متتابعة؛ فإنه يلزمك صيامها كلها متتابعة غير ما لا يجوز صيامه كأيام العيد والتشريق. ولا يلزم قضاء شيء من ذلك؛ لأنه ليس داخلا في النذر، إلا إذا كنت خصصته بنية القضاء؛ فقال بعض أهل العلم بقضائه؛ لتخصيصه، وقال بعضهم لا يلزم قضاؤه.

جاء في المدونة الكبرى: مَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا... صَامَ مِنْها مَا يُصَامُ، وَأَفْطَرَ مِنْها مَا يُفْطَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِمَا أَفْطَرَ قَضَاءٌ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى عِنْدَمَا نَذَرَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا أَفْطَرَ مِنْ ذَلِكَ. اهـ.

وجاء فيها أيضا: وَإِنْ كَانَ نَذَرَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهِا صَامَ سَنَةً لَيْسَ فِيهَا رَمَضَانُ، وَلَا يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا أَيَّامُ النَّحْرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. انتهى.

وهذا ما درج عليه ابن جزي في القوانين الفقهية: وَلَو نذر صَوْم سنة، أفطر أَيَّام الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَصَامَ رَمَضَان عَن رَمَضَان، وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إِلَّا إِن نوى أَن يقْضِي. وَقيل عَلَيْهِ الْقَضَاء إِلَّا إِن نوى أَلَا يقْضِي. اهـ.

وقال النووي في المجموع: وإن نذر صوم سنة بعينها، لزمه صومها متتابعا، كما يلزمه صوم رمضان متتابعا. فإذا جاء رمضان، صام عن رمضان؛ لأنه مستحق بالشرع، ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر، ولا يلزمه قضاؤه عن النذر؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويفطر في العيدين وأيام التشريق؛ لأنه مستحق للفطر، ولا يلزمه قضاؤه؛ لأنه لم يتناولها النذر.

وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النَّذْرِ. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني: إذَا نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، لَمْ يَدْخُلْ فِي نَذْرِهِ رَمَضَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ، وَلَا يَوْمَا الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ صِيَامِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا عَن النَّذْرِ، فَأَشْبَهَا رَمَضَانَ. اهـ.

والذي يظهر من هذه النصوص وغيرها من أقوال العلماء، أن رمضان وأيام العيدين لا تدخل في صيام نذر سنة معينة أصلا.

وأما قولك: عاهدت الله أيضا أن أصوم الاثنين والخميس في حياتي؛ فالظاهر -والله أعلم- أنهما داخلان في صيام السنة المعينة، كما دخل فيها صيام رمضان..، وبعد إكمالها يلزم صيامهما مدة حياتك؛ لأنك عاهدت الله على ذلك.

ولو قضيت الجميع لكان أحوط؛ لقول بعض أهل العلم بالقضاء -كما رأيت- إذا نوى ذلك.

وأما قولك: "ولقد أفطرت بعض الأيام في السنة" فإن كان فطرك في هذه الأيام من غير عذر، فإن ذلك يبطل التتابع، فعليك أن تستأنف الصيام من جديد؛ لأن نيتك كانت متابعة صيام السنة، كما جاء في بداية السؤال.

قال النووي في المجموع: فإن أفطر فيه لغير عذر .... لزمه أن يستأنف؛ لأن التتابع لزمه بالشرط فبطل بالفطر. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني