الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإقامة في ديار الكافرين وشفاعة سيد المرسلين

السؤال

أرجو منكم الإجابة على سؤالي مباشرة دون تحويلي إلى إجابات أخرى من فضلكم، هل يشفع الرسول في من تبرأ منهم حسب الحديث الشريف: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وهل مصير من يقيم في بلاد المشركين من أجل توفير حياة مادية وثقافية أفضل هو من أصحاب النار خالدين فيها، أفيدوني؟ جزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن إقامة المسلم بين الكفار جائزة إذا أمن المسلم على دينه وكان قادراً على إقامة شعائر الإسلام، وإذا أقام بنية دعوة الناس إلى الله تعالى كان مأجوراً على ذلك إن شاء الله، والأدلة الواردة في عدم جواز الإقامة في بلاد الكفار محمولة على من يكون غير قادر على إقامة شعائر الإسلام وغير آمن على دينه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الحديث: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.

وكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97}، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص الآية.

وأما إذا كان المسلم لا يأمن الفتنة على دينه أو كان غير قادر على إقامة شعائر الإسلام، فإن إقامته حينئذ بين الكفار معصية من المعاصي، والمعاصي إذا كانت من موحد لا تخلد صاحبها في النار، ولا تمنع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم والذهبي والألباني وغيرهم.

ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة, فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً. رواه مسلم في صحيحه.

ولكن لا يجوز أن يفهم من هذا الكلام التهوين من شأن المعاصي، اتكالاً على ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وسعة عفو الله تعالى وفضله ورحمته، فإن الله تعالى كما أنه غفور رحيم، فإنه كذلك شديد العقاب، شديد الغيرة على محارمه, وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تتوعد من انتهك حرمات الله تعالى بالعذاب الأليم يوم القيامة. والواجب على المسلم أن لا يغلب جانب ما جاء من نصوص الوعد في القرآن والحديث على ما جاء فيهما من الوعيد، لئلا يفضي به ذلك إلى ارتكاب ما حرمه الله تعالى، وإلى أمن مكره عز وجل، وقد قال الله تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف:99}، والمقيم في بلاد الكفار إذا كان غير آمن على دينه، قد يتعرض للفتنة في عقيدته، وقد يؤدي ذلك إلى انعدام الإيمان والردة عن الدين بالكلية نسأل الله السلامة والعافية، فيموت على الكفر، فلا تنفعه شفاعة الشافعين، بل يدخل النار خالداً مخلداً فيها والعياذ بالله.

وعليه فإن كان الذي يريد أن يحسن من وضعه المادي بالإقامة في بلاد الكفار قادراً على إقامة شعائر دينه وعنده من العلم ما يدفع به الشبهات التي قد ترد عليه, ومن التقوى ما يدفع به الشهوات، من كان هذا حاله جاز له البقاء في دار الكفر، سواء للعمل أو لغيره، ومن لم يأمن على دينه لم يجز له البقاء هناك، وللمزيد من التفصيل والفائدة حول حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين، راجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني