الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا ، واختلف النقل عنهم في ذلك اختلافا كثيرا ، فذهب جمع جم إلى أن كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق ، وأن كل واحد منهم مصيب ، وحكاه الماوردي ، والروياني ، عن الأكثرين .

                        قال الماوردي : وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة .

                        وذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ، ولم يتعين لنا ، وهو عند الله متعين ; لاستحالة أن يكون الشيء الواحد ، في الزمان الواحد في الشخص الواحد ، حلالا وحراما ، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخطئ بعضهم بعضا ، ويعترض بعضهم على بعض ، ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا ; لم يكن للتخطئة وجه .

                        ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند مالك ، والشافعي ، وغيرهما أن المصيب منهم واحد ، وإن لم يتعين ، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد .

                        [ ص: 745 ] وقال جماعة ، منهم أبو يوسف : إن كل مجتهد مصيب ، وإن كان الحق مع واحد ، وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله .

                        وأنكر ذلك أبو إسحاق المروزي ، وقال : إنما نسبه إليه قوم من المتأخرين ، ممن لا معرفة لهم بمذهبه .

                        قال القاضي أبو الطيب الطبري : واختلف النقل عن أبي حنيفة ، فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا ، وفي بعض كقول أبي يوسف ، وقد روي عن أهل العراق ، وأصحاب مالك وابن سريج وأبي حامد ، بمثل قول أبي يوسف .

                        واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا ، فيما اختلفوا فيه ، ولا يجوز إجماعهم على خطأ .

                        قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال :

                        أحدها أن الحق واحد وهو المطلوب ، وعليه دليل منصوب ، فمن وضع النظر موضعه أصاب ، ومن قصر عنه ، وفقد الصواب فهو مخطئ ، ولا إثم عليه ، ولا نقول إنه معذور ; لأن المعذور من يسقط عنه التكليف ، لعذر في تركه ، كالعاجز عن القيام في الصلاة ، وهو عندنا قد كلف إصابة العين ، لكنه خفف أمر خطابه ، وأجر على قصده الصواب ، وحكمه نافذ على الظاهر ، وهذا مذهب الشافعي ، وأكثر أصحابه ، وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي .

                        ( والثاني ) : أن الحق واحد ، إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته ، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد ، وإن كان بعضهم مخطئا .

                        ( والثالث ) : أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى .

                        وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم ، فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة .

                        ومن القائلين بهذا القول الأصم . . . . . . . . . [ ص: 746 ] والمريسي وابن علية ، وحكي عن أهل الظاهر ، وعن جماعة من الشافعية ، وطائفة من الحنفية .

                        وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة ، وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة ، واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ، ولم يأتوا بما يشفي طالب الحق .

                        وهاهنا دليل يرفع النزاع ، ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، وهو الحديث الثابت في الصحيح ( من طرق ) : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر .

                        فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد ، وأن بعض المجتهدين يوافقه ، فيقال له : مصيب ، ويستحق أجرين ، وبعض المجتهدين يخالفه ، ويقال له مخطئ ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا ، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر ، فمن قال : كل مجتهد مصيب ، وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين ، فقد أخطأ خطأ بينا ، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة ، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل المجتهدين قسمين ، قسما مصيبا ، وقسما مخطئا ، ولو كان كل منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى .

                        وهكذا من قال : إن الحق واحد ، ومخالفه آثم ، فإن الحديث يرد عليه ردا بينا ، ويدفعه دفعا ظاهرا ;لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا ، ورتب على ذلك استحقاقه للأجر ، فالحق الذي لا شك فيه ، ولا شبهة أن الحق واحد ، ومخالفه مأجور ، إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ، ولم يقصر في البحث ، بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا .

                        [ ص: 747 ] ومما يحتج به على هذا حديث " القضاة ثلاثة " فإنه لو لم يكن الحق واحدا ; لم يكن للتقسيم معنى ، ومثله قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمير السرية وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا .

                        وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله - عز وجل - متعددا بتعداد المجتهدين ، تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات ، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله - عز وجل - ومع شريعته المطهرة هي أيضا صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ، ولا عضدته شبهة تقبلها العقول ، وهي أيضا مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها ، فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاده ما هو أنهض مما تمسك به ، ومن شك في ذلك ، وأنكره ; فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها ، من التصريح في كثير من المسائل بتخطئة بعضهم لبعض ، واعتراض بعضهم على بعض .

                        وأما الاستدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم ، فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ففهمناها سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما ; لما كان [ ص: 748 ] لتخصيص سليمان بذلك معنى .

                        وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فهو خارج عن محل النزاع ; لأن الله سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم ، من القطع والترك ، هو بإذنه - عز وجل ، فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها ، هو كل واحد من الأمرين ، وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه ( بأنه سبحانه يريد ) بخصوصها هو كل واحد من الأمرين ، وأن حكمه على التخيير بين أمور ، يختار المكلف ما شاء منها ، كالواجب المخير ، وأن حكمه يجب على الكل ، حتى يفعله البعض ، فيسقط على الباقين ، كفروض الكفايات ، فتدبر هذا وافهمه حق فهمه .

                        وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة ، لمن خشي فوت الوقت ، وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة ; امتثالا لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فالجواب عنه كالجواب عما قبله ، على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده ، وصح صدوره عنه ; لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق ، وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده ، وفرق بين الإصابة والصواب ، فإن إصابة الحق هي الموافقة ، بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه ، من حيث كونه قد فعل ما كلف به ، واستحق الأجر عليه ، وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له .

                        وإذا عرفت هذا حق معرفته ، لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة ، وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال : الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أو لا ، فإن كان الأول ، فإما أن يجتهد المجتهد أو لا ، الثاني على قسمين ; لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر ، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام ، وإن لم يحكم بمقتضاه ، فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب ، فهو مخطئ وآثم ، وفاقا . وإن لم يكن مع العلم ، ولكن قصر في البحث عنه ، فكذلك ، وإن لم يقصر ، بل بالغ في [ ص: 749 ] الاستكشاف والبحث ، ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب ، فحكمه حكم ( ما إذا لم ) يجده ، مع الطلب الشديد وسيأتي .

                        وإن لم يجده ، فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم ، وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه ، وأفرغ الوسع في طلبه ، ومع ذلك لم يجده ، فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص ، أو عرفه ولكن مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا ، وهل هو مخطئ أو مصيب ، على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه ، والأولى بأن يكون مخطئا ، وأما ( التي لا نص ) فيها ، فإما أن يقال : لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أولا ، بل حكمه تابع لاجتهاد المجتهدين ، فهذا الثاني من قول من قال : كل مجتهد مصيب ، وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري ، والقاضي والغزالي ، والمعتزلة ، كأبي الهذيل ، وأبي علي ، وأبي هاشم ، وأتباعه ، ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة ، والمشهور عنهما خلافه .

                        فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين ، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم ، لما حكم إلا به ، أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه ، وهو قول كثير من المصوبين ، وإليه صار أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن وابن شريح ، في إحدى الروايتين عنه ، قال : وأما الثاني : فقول الخلص من المصوبة انتهى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية