الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده ، أو بمذهب إمام آخر ؟

                        فقيل : لا يجوز ، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم ، منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهما ، قال الصيرفي ، وموضوع هذا الاسم - يعني المفتي - لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم حمل عموم القرآن وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه ، وكذلك السنن والاستنباط ، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها ، فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ، ومن استحقه أفتى فيما استفتي .

                        قال ابن السمعاني : المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط : الاجتهاد ، والعدالة ، والكف عن الترخيص والتساهل ، قال : ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتي .

                        قال الرازي في المحصول : اختلفوا في غير المجتهد ، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه [ ص: 766 ] عن المفتين ؟ فنقول : لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو حي ، فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله ؛ لأنه لا قول للميت ، ( بدليل أن ) الإجماع لا ينعقد على خلافه حيا ، وينعقد على موته ، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته .

                        ( فإن قلت ) : لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها ؟

                        ( قلت ) : لفائدتين :

                        ( إحداهما ) : استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث ، وكيف بني بعضها على بعض .

                        ( والثانية ) : معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ، فلا يفتى بغير المتفق عليه . انتهى .

                        وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات ، وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات .

                        قال الروياني في البحر : إنه القياس ، وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد ، كمن تجدد فسقه بعد عدالته ، فإنه لا يبقى حكم عدالته ، وإما لأن قوله وصف له ، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال ، وإما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد ، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول ، فتقليده بناء على وهم أو تردد ، والقول بذلك غير جائز .

                        وبهذا تعرف أن قول من قال بجواز فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ، ليس على إطلاقه .

                        وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين ، بشرط أن يكون ذلك المفتي أهلا للنظر ، مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به ، وإلا فلا يجوز .

                        [ ص: 767 ] وحكاه القاضي عن القفال ، ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين ، وليس كذلك ، ولعله يعني الأكثرين من المقلدين ، وبعضهم نسبه إلى الرازي ، وهو غلط عليه ، فإن اختياره المنع .

                        واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى .

                        قال الهندي : وهذا فيه نظر ؛ لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون ، والمجمعون ليسوا بمجتهدين ، فلا يعتبر إجماعهم بحال .

                        قال ابن دقيق العيد : توقيف الفتيا على حصول المجتهد ، يفضي إلى حرج عظيم ، أو استرسال الخلق في أهويتهم ، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين ، إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ، ثم حكى للمقلد قوله ، فإنه يكتفي به ؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي ، أنه حكم الله عنده ، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا ، هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك فعل علي - رضي الله عنه - حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي ، وفي مسألتنا أظهر ، فإن مراجعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ ذاك ممكنة ، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة ، مع شرائط الاجتهاد اليوم . انتهى .

                        ( قلت ) : وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن ، أما قوله : يفضي إلى حرج عظيم إلخ فغير مسلم ، فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه ، أو على لسان رسوله ، كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته .

                        [ ص: 768 ] وأما استدلاله على الجواز بقوله : " لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي " إلخ ، فمن أغرب ما يسمعه السامع ، لا سيما عن مثل هذا الإمام ، وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية ، وأي تأثير لظنون العامة ، الذين لا يعرفون الشريعة ، ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .

                        وأما قوله " مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة " إلخ ، فنقول : نعم ، ذلك أمر ضروري ، فكان ماذا ، فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة ، بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم ، فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل ، وإن لم يعلمه أحال السائل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، أو على من يعلمه من أصحابه ، وكذا فيمن بعدهم ، ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة ، وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا ، فيسأل علماء عصره ، كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم ، وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ، ولا عما يقولون بمحض الرأي .

                        ( فإن قلت ) : ليس مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل .

                        ( قلت ) : إذا كان مراده هذا ، فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين ، وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة ، ويكون المسئول ممن لا يجهله ، فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية ، أو نبوية ، ويدع السؤال عن مذاهب الناس ، ويستغني بمذهب إمامهم الأول ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم .

                        وأما إرسال علي للمقداد ، فهو إنما أرسله ؛ ليروي له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ ، وأين هذا مما نحن بصدده .

                        وأما قوله : وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة ، مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع ، وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به ، وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة ، وإذا لم يدر به فهو حاكم بالجهل ، ( والحكم بالجهل ) ليس بحجة على أحد .

                        [ ص: 769 ] وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا .

                        وقال آخرون : إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله ، أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ، ولا يجوز له تقليد الميت .

                        قال الروياني والماوردي : إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها ، فهل له أن يفتي ؟ فيه أوجه :

                        ( ثالثها ) : إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز ، وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز .

                        قالا : والأصح أنه لا يجوز مطلقا ؛ لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها .

                        وقال الجويني في شرح الرسالة : من حفظ نصوص الشافعي ، وأقوال الناس بأسرها ، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها ؛ لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ، ولو أفتى فإنه لا يجوز .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية