الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما كانت السنة السادسة عشرة : أراد عمر بن الخطاب أن يكتب التأريخ ، فاستشار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من قال من النبوة ، ومنهم من قال من الهجرة ، ومنهم من قال من الوفاة ، فأجمعوا على الهجرة  ، وكتب التأريخ لسنة ست عشرة من الهجرة .

فلما وصل إلى سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة سار بالمسلمين إلى رستم ، حتى نزل قادس - قرية إلى جنب العذيب - وأقبل [ ص: 207 ] رستم في ستين ألفا من الجموع ممن أحصى في ديوانه سوى التبع والرقيق ، حتى نزل القادسية وبينهم وبين المسلمين جسر القادسية ،  وسعد في منزله وجع قد خرج به قرح شديد ، فبعث رستم إلى سعد أن ابعث إلي رجلا جلدا أكلمه ، فبعث إليه المغيرة بن شعبة ، ففرق المغيرة رأسه أربع فرق ثم عقص شعره ولبس برديه ، وأقبل حتى انتهى إلى رستم من وراء الجسر مما يلي العراق والمسلمون من الناحية الأخرى مما يلي الحجاز ، فلما دخل عليه المغيرة قال له رستم : إنكم معشر العرب ، كنتم أهل شقاء وجهد ، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد ، فأكلتم من طعامنا ، وشربتم من شرابنا ، واستظللتم بظلالنا ، فذهبتم فدعوتم أصحابكم وجئتم تؤذوننا ، وإنما مثلكم مثل رجل له حائط من عنب فرأى فيه أثر ثعلب فقال : وما بثعلب واحد ، فانطلق ذلك الثعلب حتى دعا الثعالب كلها إلى ذلك الحائط ، فلما اجتمعن فيه جاء صاحب الحائط فرآهن ، فسد الجحر الذي دخلن منه ، ثم قتلهن جميعا ، وأنا أعلم إنما حملكم على هذا معشر العرب الجهد الذي أصابكم ، فارجعوا عنا عامكم هذا ، فإنكم شغلتمونا عن عمارة بلادنا ، ونحن نوقر لكم ركائبكم قمحا وتمرا ، ونأمر لكم بكسوة فارجعوا عنا ، فقال [ ص: 208 ] المغيرة بن شعبة : لا يذكر منا جهد إلا وقد كنا في مثله أو أشد ، أفضلنا في أنفسنا عيشا الذي يقتل ابن عمه ويأخذ ماله فيأكله ، نأكل الميتة والدم والعظام ، فلم نزل على ذلك حتى بعث الله فينا نبينا وأنزل عليه الكتاب ، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به ، فصدقه به منا مصدق ، وكذبه به منا مكذب ، فقاتل من صدقه من كذبه حتى دخلنا في دينه من بين موقن ومقهور حتى استبان لنا أنه صادق وأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا ، وأخبرنا أنه من قتل منا على ذلك فله الجنة ، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه ، ونحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله وبرسوله وتدخل في ديننا ، فإن فعلت كانت لك بلادك ، ولا يدخل عليك فيها إلا من أحببت ، وعليك الزكاة والخمس ، وإن أبيت ذلك فالجزية ، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك .

قال له رستم : ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا منكم معشر العرب ، لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم ، ثم أمر بالمعبر أن يسكر ، فبات ليلته يسكر بالزرع والقصب والتراب حتى أصبح وقد تركه جسرا ، وعبأ سعد بن أبي وقاص الجيش ، فجعل خالد بن عرفطة على جماعة الناس ، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي [ ص: 209 ] وعلى الميسرة قيس بن مكشوح المرادي ، وزحف إليهم رستم ، وزحف إليه المسلمون ، وكان سعد في الحصن معه أبو محجن الثقفي محبوس ، حبسه سعد في شرب الخمر ، فاقتتل المسلمون قتالا شديدا والخيول تجول ، وكان مع سعد أم ولده فقال لها أبو محجن ، وسعد في رأس الحصن ينظر إلى الجيش كيف يقاتلون : أطلقيني ولك عهد الله وميثاقه ، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي ، فأطلقته وحملته على فرس لسعد بلقاء وخلت سبيله ، فجعل أبو محجن يشد على العدو ويكر ، وسعد ينظر فوق الحصن يعرف فرسه وينكره .

وكان عمرو بن معد يكرب مع المسلمين ، فجعل يحرض على الناس القتال ويقول : يا معشر المسلمين ، كونوا أسودا ، إن الفارسي تيس ، وكان في الأعلاج رجل لا يكاد يسقط له نشابة ، فقيل لعمرو بن معد يكرب : يا أبا ثور اتق ذلك الفارسي فإنه لا تسقط له نشابة ، فقصد نحوه وجاءه الفارسي ورماه بنشابة ، فأصابت ترسه ، وحمل عليه عمرو فاعتنقه وذبحه ، فاستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب ويلمقا من ديباج ، وحمل رستم على المسلمين فقصده هلال بن علقمة التميمي [ ص: 210 ] فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه فشكها إلى ركاب سرجه ، وحمل عليه هلال بن علقمة فضربه فقتله واحتز رأسه ، وولت الفرس واتبعتهم المسلمون يقتلونهم ، فلما رأى أبو محجن الهزيمة رجع إلى القصر وأدخل رجليه في قيده ، فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه قد عرفت فعرف أنها قد ركبت ، فسأل أم ولده عن ذلك ، فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله ، ونهض سعد بالمسلمين خلفهم وانتهى الفرس إلى دير قرة ، فنزل عليهم سعد بالمسلمين ووافى عياض بن غنم في مدده من أهل الشام وهم ألف رجل ، فأسهم له سعد ولأصحابه من المسلمين مما أصابوا بالقادسية ، وكان الناس قد أجبنوا سعدا وقالوا : أجبنت عن محاربة الأعداء ، فاعتذر إلى الناس وأراهم ما به من القروح في فخذيه حتى سكت الناس .

ثم انهزم الفرس من دير قرة إلى المدائن ، وحملوا ما معهم من الذهب والفضة والحرير والديباج والسلاح وخلوا ما سوى ذلك ، فبعث سعد خالد بن عرفطة في طلبهم معه أصحابه ، وأردفه بعياض بن غنم في أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي ، وتخلف عنهم بنفسه لما به من الوجع ، ثم أفاق سعد من وجعه وبرئ ، واتبع الناس بمن معه من المسلمين ، فأدركهم دون دجلة [ ص: 211 ] على بهرسير ، فطلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها ، فقال علج من أهل المدائن لسعد : أنا أدلكم على مخاضة تدركونهم قبل أن يمعنوا السير ، فخرج بهم على مخاضة ، فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في رجله ، فلما جاز تبعه خيله ، ثم أحاز عياض بن غنم بخيله ، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا ، ويقال : إن تلك المخاضة لم تعرف إلى الساعة ، فبلغ المسلمون إلى ساباط طويل مظلم ، وخشوا أن يكون فيه كمين للعدو فأخذوا يتجابنون ، فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فلما جاز لاح للناس بسيفه فعرفوا أنه ليس فيه شيء يخافونه ، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله ، ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء ، وبها جماعة من الفرس ، وكانت بها وقعة جلولاء ، وهزم الله الفرس ، وأصاب المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية .

وكتب سعد إلى عمر بن الخطاب يخبر بفتح الله على المسلمين ، فكتب إليه عمر أن قف مكانك ولا تطلب غير ذلك ، فكتب إليه سعد إنما هي سربة أدركناها والأرض بين أيدينا ، فكتب إليه عمر : أقم [ ص: 212 ] مكانك ولا تتبعهم ، وأعد للمسلمين دار هجرة ومنزل جهاد ، ولا تجعل بيني وبين المسلمين بحرا ، فنزل سعد بالأنبار فاجتووها وأصابهم بها الحمى ، فكتب إلى عمر يخبره بذلك ، فكتب إلى سعد أنه لا يصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاء في منابت العشب ، فانظر فلاة إلى جنب بحر فأنزل المسلمين بها واجعلها دار هجرة ، فسار سعد حتى نزل بكويفة فلم يوافق الناس الكون بها من كثرة الذباب والحمى ، فبعث سعد عثمان بن حنيف فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم ، فنزلها سعد بالناس وخط مسجدها ، واختط فيها للناس الخطط وكوف الكوفة ، واستعمل سعد على المدائن رجلا من كندة يقال له : شرحبيل بن السمط .

التالي السابق


الخدمات العلمية