أي ما عليه من العقوبة شرعا ، وأن منه ; أي من السحر علم التنجيم وهو النظر في النجوم الآتي بيانه ، وذكر عقوبة من صدق كاهنا بقلبه ; ويعني عقوبته الوعيدية . والبحث في هذا الفصل في أمور :
الأول : . هل السحر حقيقة وقوعه ووجوده أم لا
الثاني : حكم متعلمه إن عمل به أو لم يعمل .
الثالث : عقوبته شرعا ووعيدا .
الرابع : أنواعه .
والسحر حق وله تأثير لكن بما قدره القدير أعني بذا التقدير ما قد قدره
في الكون لا في الشرعة المطهره
وقد أخبر الله تعالى عن قوم صالح وكانوا قبل إبراهيم عليه السلام ، أنهم قالوا لنبيهم عليه السلام : ( إنما أنت من المسحرين ) ( الشعراء : 153 ) وكذا قال قوم شعيب له عليه السلام : ( إنما أنت من المسحرين ) وقالت قريش لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم في [ ص: 545 ] غير موضع ، بل ذكر الله عز وجل أن ذلك القول تداوله كل الكفار لرسلهم فقال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به ) ( الذاريات : 52 ) الآية . وقال سبحانه في ذم اليهود : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) ( البقرة : 101 - 102 ) . وقال تعالى : ( ومن شر النفاثات في العقد ) ( الفلق : 4 ) والنفاثات هن السواحر يعقدن وينفثن . والمقصود أنه قد ثبت بهذه النصوص وغيرها ما سنذكر ، ومما لا نذكر أن السحر حقيقة وجوده .
( وله تأثير ) فمنه ما يمرض ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول ومنه ما يأخذ بالأبصار ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه ، لكن تأثيره ذلك إنما هو بما قدره القدير سبحانه وتعالى ; أي بما قضاه وقدره وخلقه عندما يلقي الساحر ما ألقى ، ولذا قلنا ( أعني بذا التقدير ) في قوله بما قدره القدير ( ما قد قدره في الكون ) وشاءه ( لا ) أنه أمر به ( في الشرعة ) التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه ( المطهرة ) ، من ذلك وغيره كما تقدم أن القضاء والأمر والحكم والإرادة كل منها ينقسم على كوني وشرعي ، فالكوني يشمل ما يرضاه الله ويحبه شرعا وما لا يرضاه في الشرع ولا يحبه ، والشرعي يختص بمرضاته سبحانه وتعالى ومحابه ، ولهذا قال تعالى في الشرعي : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( البقرة : 185 ) وقال عز وجل : ( ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) [ ص: 546 ] ( الزمر : 7 ) فأخبر تعالى أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ، وأنه يرضى لهم الشكر ولا يرضى لهم الكفر مع كون كل من العسر واليسر والشكر والكفر واقع بقضاء الله وقدره وخلقه وتكوينه ومشيئته ، قال الله تعالى : ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) ( الزمر : 62 ) وقال تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) ( القمر : 49 ) .
والمقصود أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا ، وإنما يؤثر بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وتكوينه ; لأنه تعالى خالق الخير والشر والسحر من الشر ، ولهذا قال تعالى : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ( البقرة : 102 ) وهو القضاء الكوني القدري ، فإن الله تعالى لم يأذن بذلك شرعا ، وقد ثبت في الصحيحين من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت : حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله عز وجل ودعاه ثم قال : " أشعرت يا سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ، إن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه " قلت : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق . قال : فبماذا ؟ قال : مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر . قال : فأين ؟ قال : في بئر ذي أروان . " قال : فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ، ثم رجع إلى عائشة فقال : " والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رءوس الشياطين " قلت : يا رسول الله ، أفأخرجته ؟ قال : " لا ، أما أنا فقد عافاني الله عز وجل وشفاني ، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا " . وأمر بها فدفنت .
وفي رواية : قال : " ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، رجل من بني زريق حليف ليهود ، كان منافقا . قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاقة . قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان " - وذكره - هذا لفظ . المشاطة ما يخرج من الشعر ، والمشط أسنان ما [ ص: 547 ] يمشط به ، والمشاقة من مشاقة الكتان ، وجف طلعة غشاؤها وهو الوعاء الذي يكون فيه الطلع ، تحت راعوفة ، هو حجر يترك في البئر عند الحفر ثابت لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقي ، وقيل : حجر على رأس البئر يستقي عليه المستقي ، وقيل : حجر بارز من طيها يقف عليها المستقي والناظر فيها ، وقيل : في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظفها لا يمكن قلعه لصلابته ، والله سبحانه وتعالى أعلم . البخاري
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم : قال المازري رحمه الله تعالى : مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها ، وقد ذكره الله تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم ، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به وأنه يفرق بين المرء وزوجه ، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له ، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت ، وهذا كله يبطل ما قالوه فإحالة كونه من الحقائق محال ، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر ، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ، ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ، ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة . قال : وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها ، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع . وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل ; لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل .
فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها ، وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل [ ص: 548 ] إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له ، وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له ، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد . قال رحمه الله تعالى : وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده . ويكون معنى قوله في الحديث : " القاضي عياض " ، ويروى : " يخيل إليه " ; أي يظهر له من نشاطه - ومتقدم عادته القدرة عليهن - فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك ، كما يعتري المسحور . وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه ، فمحمول على التخيل بالبصر لا كالخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ، ولا طعنا لأهل الضلالة ، والله أعلم . اهـ . حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن
قلت : قول المازري : خلافا لمن أنكر ذلك ، قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى : أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا فإنه قال : لا حقيقة له عنده . ثم ذكر الاختلاف في حكم الساحر . وقال أبا حنيفة القرطبي رحمه الله تعالى : وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة ، حيث قالوا : إنه تمويه وتخييل . اهـ . وأبي إسحاق الإسفراييني
قلت : قد ثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثيره بإذن الله بظواهر الآيات والأحاديث وأقوال عامة الصحابة ، وجماهير العلماء بعدهم رواية ودراية ، فأما القتل به والأمراض والتفرقة بين المرء وزوجه وأخده بالأبصار ، فحقيقة لا مكابرة فيها ، وأما قلب الأعيان كقلب الجماد حيوانا وقلب الحيوان من شكل إلى آخر ، فليس بمحال في قدرة الله عز وجل ولا غير ممكن ، فإنه هو الفاعل في [ ص: 549 ] الحقيقة وهو الفعال لما يريد ، فلا مانع من أن يحول الله ذلك عندما يلقي الساحر ما ألقى امتحانا وابتلاء وفتنة لعباده ، ولكن الذي أخبرنا الله تعالى به في الواقع من سحرة فرعون في قصتهم مع موسى إنما هو التخييل والأخذ بالأبصار حتى رأوا الحبال والعصي حيات ، فنؤمن بالخبر ونصدقه ولا نتعداه ولا نبدل قولا غير الذي قيل لنا ، ولا نقول على الله ما لا نعلم . وبالله التوفيق .
واحكم على الساحر بالتكفير وحده القتل بلا نكير
كما أتى في السنة المصرحه مما رواه الترمذي وصححه
عن جندب وهكذا في أثر أمر بقتلهم روي عن عمر
وصح عن حفصة عند مالك ما فيه أقوى مرشد للسالك