الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الثاني وهو الذي يرجع إلى صفة المستأجر والمستأجر فيه فالكلام فيه في موضعين : أحدهما : في بيان صفة المستأجر والمستأجر فيه ، والثاني في بيان ما يغير تلك الصفة .

                                                                                                                                أما الأول فنقول - وبالله التوفيق - : لا خلاف في أن المستأجر أمانة في يد المستأجر كالدار ، والدابة ، وعبد الخدمة ، ونحو ذلك ، حتى لو هلك في يده بغير صنعه لا ضمان عليه ; لأن قبض الإجارة قبض مأذون فيه ، فلا يكون مضمونا كقبض الوديعة والعارية .

                                                                                                                                وسواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة لما قلنا .

                                                                                                                                وأما المستأجر فيه كثوب القصارة ، والصباغة ، والخياطة ، والمتاع المحمول في السفينة ، أو على الدابة ، أو على الجمال ، ونحو ذلك ، فالأجير لا يخلو إما إن كان مشتركا أو خاصا وهو المسمى أجير الوحد ، فإن كان مشتركا فهو أمانة في يده ، في قول أبي حنيفة ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقال أبو يوسف ومحمد : هو مضمون عليه إلا حرق غالب أو غرق غالب أو لصوص مكابرين ، ولو احترق بيت الأجير المشترك بسراج ; يضمن الأجير كذا روي عن محمد ; لأن هذا ليس بحريق غالب ، وهو الذي يقدر على استدراكه لو علم به ; لأنه لو علم به لأطفأه فلم يكن موضع العذر ، وهو استحسان ، ثم إن هلك قبل العمل يضمن قيمته غير معمول ولا أجر له ، وإن هلك بعد العمل فصاحبه بالخيار : إن شاء ضمنه قيمته معمولا ، وأعطاه الأجر بحسابه ، وإن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له ، واحتجا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : على اليد ما أخذت حتى ترده } ، وقد عجز عن رد عينه بالهلاك فيجب رد قيمته قائما مقامه .

                                                                                                                                وروي أن عمر رضي الله عنه كان يضمن الأجير المشترك احتياطا لأموال الناس ، وهو المعنى في المسألة ، وهو أن هؤلاء الأجراء الذين يسلم المال إليهم من غير شهود تخاف الخيانة منهم ، فلو علموا أنهم لا يضمنون ; لهلكت أموال الناس ; لأنهم لا يعجزون عن دعوى الهلاك ، وهذا المعنى لا يوجد في الحرق الغالب ، والغرق الغالب ، والسرق الغالب .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة أن الأصل أن لا يجب الضمان إلا على المتعدي لقوله عز وجل : { فلا عدوان إلا على الظالمين } ، ولم يوجد التعدي من الأجير ; لأنه مأذون في القبض ، والهلاك ليس من صنعه فلا يجب الضمان عليه ; ولهذا لا يجب الضمان على المودع ، والحديث لا يتناول الإجارة ; لأن الرد في باب الإجارة لا يجب على المستأجر فكان المراد منه الإعارة والغصب ، وفعل عمر رضي الله عنه يحتمل أنه كان في بعض الأجراء ، وهو المتهم بالخيانة ، وبه نقول ثم عندهما إنما يجب الضمان على الأجير إذا هلك في يده ; لأن العين إنما تدخل في الضمان عندهما بالقبض كالعين المغصوبة ، فما لم يوجد القبض لا يجب الضمان ، حتى لو كان صاحب المتاع معه راكبا في السفينة أو راكبا على الدابة التي عليها الحمل فعطب الحمل من غير صنع الأجير لا ضمان عليه ; لأن المتاع في يد صاحبه ، وكذلك إذا كان صاحب المتاع ، والمكاري راكبين على الدابة أو سائقين أو قائدين ; لأن المتاع في أيديهما ، فلم ينفرد الأجير باليد ، فلا يلزمه ضمان اليد ، وروى بشر عن أبي يوسف أنه إن سرق المتاع من رأس الحمال ، وصاحب المتاع يمشي معه لا ضمان عليه ; لأن المتاع لم يصر في يده ، حيث لم يخل صاحب المتاع بينه وبين المتاع ، وقالوا في الطعام إذا كان في سفينتين وصاحبه في إحداهما ، وهما مقرونتان أو غير مقرونتين إلا أن سيرهما جميعا وحبسهما جميعا فلا ضمان على الملاح فيما هلك من يده ; لأنه هلك في يد صاحبه ، وكذلك القطار إذا كان عليه حمولة ، ورب الحمولة على بعير فلا ضمان على الجمال ; لأن المتاع في يد صاحبه ; لأنه هو الحافظ له ، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل استأجر حمالا ليحمل عليه زقا من سمن فحمله صاحب الزق والحمال جميعا ليضعاه على رأس الحمال فانخرق الزق ، وذهب ما فيه قال أبو يوسف : لا يضمن الحمال ; لأنه لم يسلم إلى [ ص: 211 ] الحمال بل هو في يده قال : وإن حمله إلى بيت صاحبه ثم أنزله الحمال من رأسه وصاحب الزق فوقع من أيديهما فالحمال ضامن ، وهو قول محمد الأول ، ثم رجع وقال : لا ضمان عليه لأبي يوسف أن المحمول داخل في ضمان الحمالة بثبوت يده عليه فلا يبرأ إلا بالتسليم إلى صاحبه ، فإذا أخطئوا جميعا فيد الحمال لم تزل فلا يزول الضمان ، ولمحمد أن الشيء قد وصل إلى صاحبه بإنزاله فخرج من أن يكون مضمونا ، كما لو حملاه ابتداء إلى رأس الحمال فهلك ، وروى هشام عن محمد فيمن دفع إلى رجل مصحفا يعمل فيه ، ودفع الغلاف معه ، أو دفع سيفا إلى صيقل يصقله بأجر ، ودفع الجفن معه فضاعا ، قال محمد : يضمن المصحف ، والغلاف ، والسيف والجفن ; لأن المصحف لا يستغني عن الغلاف ، والسيف لا يستغني عن الجفن ، فصار كشيء واحد ، قال : فإن أعطاه مصحفا يعمل له غلافا أو سكينا يعمل له نصالا فضاع المصحف أو ضاع السكين لم يضمن ; لأنه لم يستأجره على أن يعمل فيهما بل في غيرهما ، ولو اختلف الأجير ، وصاحب الثوب فقال الأجير : رددت ، وأنكر صاحبه فالقول قول الأجير في قول أبي حنيفة ; لأنه أمين عنده في القبض ، والقول قول الأمين مع اليمين ، ولكن لا يصدق في دعوى الأجر ، وعندهما : القول قول صاحب الثوب ; لأن الثوب قد دخل في ضمانه عندهما فلا يصدق على الرد إلا ببينة ، وإن كان الأجير خاصا فما في يده يكون أمانة في قولهم جميعا ، حتى لو هلك في يده بغير صنعه لا يضمن ، أما على أصل أبي حنيفة فلأنه لم يوجد منه صنع يصلح سببا لوجوب الضمان ; لأن القبض حصل بإذن المالك .

                                                                                                                                وأما على أصلهما فلأن وجوب الضمان في الأجير المشترك ثبت استحسانا صيانة لأموال الناس ، ولا حاجة إلى ذلك في الأجير الخالص ; لأن الغالب أنه يسلم نفسه ، ولا يتسلم المال فلا يمكنه الخيانة ، والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية