الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتل ابن الفرات وولده المحسن

وكان المحسن ابن الوزير ابن الفرات مختفيا ، كما ذكرنا ، وكان عند حماته حزانة ، وهي والدة الفضل بن جعفر بن الفرات ، وكانت تأخذه في كل يوم إلى المقبرة ، وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زي امرأة ، فمضت يوما إلى مقابر قريش ، وأدركها الليل ، فبعد عليها الطريق ، فأشارت عليها امرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير ، تختفي عندها ، فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت [ ص: 694 ] لها : معنا صبية بكر نريد بيتا نكون فيه فأمرتهم بالدخول إلى دارها ، وسلمت إليهم قبة في الدار ، فأدخلن المحسن إليها ، وجلست النساء اللاتي معه في صفة بين يدي باب القبة ، فجاءت جارية سوداء ، فرأت المحسن في القبة ، فعادت إلى مولاتها ، فأخبرتها أن في الدار رجلا ، فجاءت صاحبتها فلما رأته عرفته .

وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره ، فلما رأى الناس في داره يجلدون ، ويشقصون ، ويعذبون مات فجأة ، فلما رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة ، وقصدت دار الخلافة ، وصاحت : معي نصيحة لأمير المؤمنين ! فأحضرها نصر الحاجب ، فأخبرته بخبر المحسن ، فانتهى ذلك إلى المقتدر ، فأمر نازوك ، صاحب الشرطة ، أن يسير معها ويحضره ، فأخذها معه ( إلى منزلها ) ، ودخل المنزل ، وأخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر ، فرده إلى دار الوزير ، فعذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها ، فلم يجبهم إلى دينار واحد ، وقال : لا أجمع لكم بين نفسي ومالي ، واشتد العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام .

فلما علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة ، فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس ، وهارون بن غريب الخال ، ونصر الحاجب : إن ينقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله ، وأطمع المقتدر في أموالنا ، وضمننا منه ، وتسلمنا فأهلكنا ، فوضعوا القواد والجند ، حتى قالوا للخليفة : إنه لا بد من قتل ابن الفرات وولده ، فإننا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة .

وترددت الرسائل في ذلك ، وأشار مؤنس ، وهارون بن غريب ، ونصر الحاجب [ ص: 695 ] بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا ، فأمر نازوك بقتلهما ، فذبحهما كما يذبح الغنم .

وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائما ، فأتي بطعام فلم يأكله ، فأتي أيضا بطعام ليفطر عليه ، فلم يفطر ، وقال : رأيت أخي العباس في النوم يقول لي : أنت وولدك عندنا يوم الإثنين ، ولا شك أننا نقتل ، فقتل ابنه المحسن يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر ، وحمل رأسه إلى أبيه ، فارتاع لذلك شديدا ، ثم عرض أبوه على السيف فقال : ليس إلا السيف ، راجعوا في أمري ، فإن عندي أموالا جمة ، وجواهر كثيرة ، فقيل له : جل الأمر عن ذلك ! وقتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة ، وعمر ولده المحسن ثلاثا وثلاثين سنة ، فلما قتلا حمل رأساهما إلى المقتدر بالله ، فأمر بتغريقهما .

وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقول : إن المقتدر بالله يقتلني ، فصح قوله ، فمن ذلك أنه عاد من عنده يوما ، وهو مفكر كثير الهم ، فقيل له في ذلك ، فقال : كنت عند أمير المؤمنين فما خاطبته في شيء من الأشياء إلا قال لي نعم ، فقلت له الشيء وضده ، ففي كل ذلك يقول نعم ، فقيل له : هذا لحسن ظنه بك ، وثقته بما تقول ، واعتماده على شفقتك ، فقال : لا والله ، ولكنه أذن لكل قائل ، وما يؤمني أن يقال له بقتل الوزير ، فيقول نعم والله إنه قاتلي !

ولما قتل ركب هارون بن غريب مسرعا إلى الوزير الخاقاني ، وهنأه بقتله ، فأغمي عليه ، حتى ظن هارون ومن هناك أنه قد مات ، وصرخ أهله وأصحابه عليه ، فلما أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتى أخذ منه ألفي دينار .

وأما أولاده ( سوى المحسن ) فإن مؤنسا المظفر شفع في ابنيه عبد الله وأبي [ ص: 696 ] نصر ، فأطلقا له فخلع عليهما ، ووصلهما بعشرين ألف دينار ، وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار ، وأطلق إلى منزله .

وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريما ، ذا رئاسة وكفاية في عمله حسن السؤال والجواب ، ولم يكن له سيئة إلا ولده المحسن .

ومن محاسنه أنه جرى ذكر أصحاب الأدب ، وطلبة الحديث ، وما هم عليه من الفقر والتعفف ، فقال : أنا أحق من أعانهم ، وأطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم ، وللشعراء عشرين ألف درهم ، ولأصحاب الأدب عشرين ألف درهم ، وللفقهاء عشرين ألف درهم ، وللصوفية عشرين ألف درهم ، فذلك مائة ألف درهم .

وكان إذا ولي الوزارة ارتفعت أسعار الثلج ، والشمع ، والسكر ، والقراطيس ، لكثرة ما كان يستعملها ويخرج من داره للناس ، ولم يكن فيه ما يعاب به إلا أن أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون ، ويظلمون ، فلا يمنعهم ، فمن ذلك أن بعضهم ظلم امرأة في ملك لها ، فكتبت إليه تشكو منه غير مرة ، وهو لا يرد لها جوابا ، فلقيته يوما ، وقالت له : أسألك بالله أن تسمع ( مني كلمة ) فوقف لها فقالت : قد كتبت إليك في ظلامتي غير مرة ، ولم تجبني ، وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى ، فلما ( كان بعد أيام ) ، ورأى تغير حاله ، قال لمن معه من أصحابه : ( ما أظن ) إلا جواب رقعة [ ص: 697 ] تلك المرأة المظلومة ( قد خرج ) ، فكان كما قال .

التالي السابق


الخدمات العلمية