الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج

لما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي ، ولم يرد جوابه ، عرض عسكره ، وأصلح آلاته ، ورتب قواده ، ثم سار هو وابنه أبو العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة ، وأشرف عليها ، وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق ، وغور الطريق إليها ، وما أعد من المجانيق والعرادات ، والقسي ، وسائر الآلات على سورها ، مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان ، ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه .

فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض ، فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة ، والرمي لمن عليه بالسهام ، فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث ، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه ، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم ، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم ، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر .

وثبت أبو العباس ، فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد [ ص: 383 ] [ ممن ] حاربهم ، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوا ، استأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين ، فأمنهم ، فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم ، وكان ذلك من أنجع المكايد ، فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان ، وتنافسوا فيه ، وابتدروا إليه ، فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات ، فعمهم بالخلع والصلات .

فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحابه إلى السميريات إلى نهر أبي الخصيب ، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج ، وأمر بهبود ، وهو من شر قواده ، أن يخرج في الشذوات ، فخرج وبرز إليه أبو العباس في شذواته ، وقاتله ، واشتدت الحرب ، فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث ، وأصابته طعنتان ، وجرح بالسهام ، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة ، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت ، فقتل ممن كان معه قائد ذو بأس يقال له عميرة ، وظفر أبو العباس بشذاة فقتل أهلها ، ورجع هو ومن معه سالمين ، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم ، فأمنهم ، وأحسن إليهم ، وخلع عليهم .

ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك ، استأمن إليه عند منصرفه خلق كثير ، فأمنهم ، وخلع عليهم ، ووصلهم ، وأثبت أسماءهم مع أبي العباس ، وأقام عسكره يومين ، ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله ، وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل .

ثم ركب منتصف شعبان في الخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات ، وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفا ، وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان ، كلهم ممن يقاتل بسيف ، أو رمح ، أو قوس ، أو مقلاع ، أو منجنيق ، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم ، وهم النظارة ، والنساء تشركهم في ذلك ، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم ، ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث ، وكتب الأمان في رقاع ، ورماها في السهام ، ووعد فيها الإحسان ، فمالت قلوب أصحاب الخبيث ، واستأمن ذلك اليوم خلق كثير ، فخلع عليهم ووصلهم ، ولم يكن ذلك اليوم حرب .

ثم رحل من نهر جطى من الغد ، فعسكر قرب مدينة الخبيث ، ورتب قواده [ ص: 384 ] وأجناده ، وعين لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه ، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات ، والشذوات ، والزواريق ، والإكثار منها ليضبط بها الأنهار ، ليقطع الميرة عن الخبيث ، وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية ، وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته ، وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان ، وأقام ينتظر ذلك شهرا ، فوردت عليه الميرة متتابعة ، وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية ، واتخذت فيها الأسواق ، ووردتها مراكب البحر ، وبنى الموفق بها المسجد الجامع ، وأمر الناس بالصلاة فيه ، فجمعت هذه المدينة من المرافق ، وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة وحملت الأموال ، وأدرت الأرزاق .

وعبرت طائفة من الزنج ، فنهبوا أطراف عسكر نصير ، وأوقعوا به ، فأمر الموفق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم ، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة ، فقاتلهم ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وغنم ما كان معهم ، فصار إليه منهم في الأمان ، فأمنهم ، وخلع عليهم ووصلهم ، وأقام أبو أحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه ، ومحاصرة الباقين ، والتضييق عليهم .

وكانت قافلة قد أتت من الأهواز ، وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذها ، وعظم ذلك على الموفق ، وغرم لأهلها ما أخذ منهم ، وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار ، وقلد ابنه أبا العباس الشذا ، وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به .

وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير ، ( فنذر بهم الناس ، فخرجوا إليهم ) فردوهم خائبين ، وظفروا بصندل الزنجي ، كان يكشف رءوس المسلمات ، ويقلبهن تقليب الإماء ، فلما أتي به أمر الموفق أن يرمى بالسهام ثم قتله .

[ ص: 385 ] واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير ، فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفا .

وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم ، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق ، فكان فيهم أكثر من مائتي قائد ، فعبروا ليلا ، واختفوا في آخر النخل ، وأمرهم ، إذا ظهر أصحابهم ، وقاتلوا الموفق من بين يديه ، ظهروا ، وحملوا على عسكره وهم غارون ، مشاغيل بحرب من أمامهم ، فأستأمن منهم إنسان من الملاحين ، فأخبر الموفق ، فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونها ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وأسر أكثرهم ، وغرق منهم خلق كثير ، وقتل بعضهم ، ونجا بعضهم ، فأمر أبو العباس أن يحمل الأسرى ، والرءوس ، والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث ، ففعلوا ذلك .

وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه : إن الأسرى من المستأمنة ، وإن الرءوس تمويه عليهم ، فأمر بإلقاء الرءوس في منجنيق إليهم ، فلما رأوها عرفوها ، فأظهروا الجزع والبكاء ، وظهر لهم كذب الخبيث .

وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات ، فعملت له ، فكانت له خمسون شذاة فقسمها بين ثلاثة من قواده ، وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق ; وكانت شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله ، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث ، فخافهم أصحاب الموفق ، فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملها ، فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفا عليها من الزنج ، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم ، فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم ، وقاتلهم ، فانكشفوا بين يديه ، وتبعهم حتى أدخلهم نهر الخصيب ، انقطع عن أصحابه ، فعطفوا عليه ، فأخذوه ، ومن معه بعد حرب شديدة ، فقتلوا ، وسلمت الشذوات مع أبي العباس ، وأصلحها ، ورتب فيها من يقاتل .

ثم أقبلت شذوات العلوي على عادتها ، فخرج إليهم أبو العباس في أصحابه ، فقاتلهم ، فهزمهم ، وظفر منهم بعدة شذوات ، فقتل منهم من ظفر به فيها ، فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره ، وقطع أبو العباس الميرة عنهم ، فاشتد جزع [ ص: 386 ] الزنج ، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان ، فأمنوا ، وكان منهم محمد بن الحارث القمي ، وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق ، فيخرج ليلا ، فأمنه الموفق ، ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه ، وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتها ، وأراد إخراج زوجته فلم يقدر ، فأخذها الخبيث فباعها ; ومنهم أحمد اليربوعي ، وكان من أشجع رجال العلوي ، وغيرهما ، فخلع عليهم ، ووصلهم بصلات كثيرة .

ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلا وأبا البذي ، وهما من رؤساء قواده [ الذين ] يثق بهم ، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين ، وقطع الميرة عن الموفق ، فسير الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه ، فلقيهم بنهر ابن عمر ، فرأى كثرتهم ، فراعه ذلك ، ثم استخار الله تعالى في قتالهم ، فحمل عليهم وقاتلهم ، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا ، ووضع فيهم السيف ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وغرق منهم مثل ذلك ، وأسر خلقا كثيرا ، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه ، وغرق ما أمكنه تغريقه ، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة ، وأقبل بالأسارى والرءوس إلى مدينة الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية