فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الحمية 
الدواء كله شيئان : حمية وحفظ صحة . فإذا وقع التخليط احتيج إلى  [ ص: 95 ] الاستفراغ الموافق ، وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاثة . والحمية : حميتان : حمية عما يجلب المرض ، وحمية عما يزيده فيقف على حاله ، فالأول : حمية الأصحاء . والثانية : حمية المرضى ، فإن المريض إذا احتمى ، وقف مرضه عن التزايد ، وأخذت القوى في دفعه . والأصل في الحمية قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا   ) [ النساء : 43 المائدة 6 ] فحمى المريض من استعمال الماء لأنه يضره . 
وفي " سنن  ابن ماجه   " وغيره عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية  ، قالت : ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي  ، وعلي  ناقه من مرض ، ولنا دوالي معلقة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها ، وقام علي  يأكل منها ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي   : " إنك ناقه " حتى كف . قالت : وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي   : " من هذا أصب ، فإنه أنفع لك " وفي لفظ فقال : " من هذا فأصب ، فإنه أوفق لك "  ) . 
وفي " سنن  ابن ماجه   " أيضا عن صهيب  قال : ( قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر ، فقال : " ادن فكل " ، فأخذت تمرا فأكلت ، فقال : " أتأكل تمرا وبك رمد " ؟ فقلت : يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ) . 
وفي حديث محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الله إذا أحب عبدا حماه من الدنيا ، كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام والشراب  ) . وفي لفظ : ( إن الله يحمي عبده  [ ص: 96 ] المؤمن من الدنيا  ) . 
وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس : ( الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل جسم ما اعتاد  ) فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة  طبيب العرب ، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله غير واحد من أئمة الحديث . 
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة ، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم  ) . 
وقال الحارث   : رأس الطب الحمية ، والحمية عندهم للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه ، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض ، فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها ، والقوة الهاضمة ضعيفة ، والطبيعة قابلة ، والأعضاء مستعدة ، فتخليطه يوجب انتكاسها ، وهو أصعب من ابتداء مرضه . 
واعلم أن في منع النبي صلى الله عليه وسلم لعلي  من الأكل من الدوالي ، وهو ناقه أحسن التدبير ، فإن الدوالي أقناء من الرطب تعلق في البيت للأكل بمنزلة عناقيد العنب ، والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها ، فإنها لم تتمكن بعد من قوتها ، وهي مشغولة بدفع آثار العلة ، وإزالتها من البدن . 
وفي الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة ، فتشتغل بمعالجته وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره ، فإما أن تقف تلك البقية ، وإما  [ ص: 97 ] أن تتزايد ، فلما وضع بين يديه السلق والشعير ، أمره أن يصيب منه ، فإنه من أنفع الأغذية للناقه ، فإن في ماء الشعير من التبريد والتغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة ما هو أصلح للناقه ، ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق ، فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف ، ولا يتولد عنه من الأخلاط ما يخاف منه . 
وقال  زيد بن أسلم   : حمى عمر  رضي الله عنه مريضا له ، حتى إنه من شدة ما حماه كان يمص النوى  . 
وبالجملة : فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء ، فتمنع حصوله ، وإذا حصل فتمنع تزايده وانتشاره . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					