الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير

الدسوقي - محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي

صفحة جزء
( و ) يجوز ( للإمام ) ، وينبغي أو نائبه فقط ( المهادنة ) [ ص: 206 ] أي صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام ( لمصلحة ) كالعجز عن قتالهم مطلقا أو في الوقت الحاضر وتعينت إن كانت المصلحة فيها ، وإن كانت المصلحة في عدمها امتنعت فاللام للاختصاص لا للتخيير ( إن خلا ) عقد المهادنة ، وكان القياس إن خلت بالتأنيث ( عن ) شرط فاسد فإن لم تخل عنه لم تجز ( كشرط بقاء مسلم ) أسر تحت أيديهم أو قرية لنا خالية لهم أو شرط حكم بين مسلم وكافر بحكمهم ( وإن بمال ) مبالغة إما في مفهوم الشرط أي فإن لم تخل عن شرط فاسد لم تجز وإن بمال يدفعه أهل الكفر لنا ، وإما في منطوقه أي : وإن بمال يدفعه الإمام لهم ( إلا لخوف ) مما هو أشد ضررا من دفع المال منهم أو لهم سواء جعلت المبالغة في المفهوم أو المنطوق ( ولا حد ) واجب لمدتها بل على حسب اجتهاد الإمام ( وندب أن لا تزيد ) مدتها ( على أربعة أشهر ) لاحتمال حصول قوة أو نحوها للمسلمين ، وهذا إذا استوت المصلحة في تلك المدة وغيرها ، وإلا تعين ما فيه المصلحة .

( وإن ) ( استشعر ) الإمام أي ظن ( خيانتهم ) قبل المدة بظهور أمارتها ( نبذه ) وجوبا ، وإنما سقط العهد المتيقن بالظن الذي ظهرت علاماته للضرورة ( وأنذرهم ) وجوبا بأنه لا عهد لهم فإن تحقق خيانتهم نبذه بلا إنذار ( ووجب الوفاء ) بما عاهدونا عليه ( وإن ) كان عهدنا لهم ( برد رهائن ) كفار عندنا ( ولو أسلموا ) حيث وقع اشتراط ردهم ، وإن لم يشترطوا في الرد إن أسلموا ( كمن أسلم ) أي كشرط رد من جاءنا منهم وأسلم وليس رهنا فإنه يوفى به ( وإن رسولا ) ، ومحل الرد ( إن كان ) من ذكر من الرهائن الذين أسلموا [ ص: 207 ] أو ممن أسلم ( ذكرا ) فإن كان أنثى لم ترد ولو مع شرط ردها صريحا ( وفدي ) من أسلم ورد للكفار من رهائن أو غيرهم ، وأولى المسلم الأصلي الأسير ( بالفيء ) أي بيت مال المسلمين وجوبا على الإمام ( ثم ) إن لم يكن بيت مال أو لم يمكن الوصول إليه أو قصر ما فيه عن الكفاية فدي ( بمال المسلمين ) على قدر وسعهم والأسير كواحد منهم ( ثم ) إن تعذر من المسلمين فدي ( بماله ) إن كان له مال ( ورجع ) الفادي المعين سواء اتحد أو تعدد على بيت مال المسلمين إذا علم أو ظن أن الإمام لا يفديه من الفيء ولا يجبي من المسلمين ما يفديه به ( بمثل المثلي وقيمة غيره ) أي غير المثلي ، وهو المقوم ( على الملي ) يؤخذ منه الآن ( والمعدم ) باتباع ذمته فيؤخذ منه إن أيسر ، ومحل رجوع الفادي ( إن لم يقصد صدقة ) بأن قصد الرجوع أو لا قصد له وصدق إن ادعى عدم الصدقة ( ولم يمكن الخلاص بدونه ) فإن أمكن بدون شيء أو بأقل مما فدي به لم يرجع في الأولى بشيء ، ويرجع في الثانية بقدر ما يمكن به الخلاص ( إلا ) أن يكون الفادي أو المفدي ( محرما ) من النسب ( أو ) يكون كل منهما ( زوجا ) للآخر فلا رجوع ( إن عرفه ) شرط فيهما ، وأفرد الضمير ; لأن العطف بأو ( أو عتق عليه ) ، وإن لم يعرفه ، وهو شرط في المحرم فقط ( إلا أن يأمره به ) مستثنى من الاستثناء قبله أي إلا أن يأمر المفدي الفادي بالفداء فيرجع ولو محرما أو زوجا ( ويلتزمه ) الواو بمعنى أو إذ الأمر بالفداء كاف في الرجوع وإن لم يلتزمه ( وقدم ) الفادي بما فدي ( على غيره ) من أرباب الديون ( ولو في ) مال ببلد الإسلام ( غير ما بيده ) مما قدم به من بلد العدو ، ويفض الفداء ( على العدد ) بالسوية ( إن جهلوا ) أي العدو ( قدرهم ) أي الأسارى من غنى وفقر وشرف ووضاعة فإن علموه فض على قدر ما يفدى به كل واحد بحسب عادتهم كثلاثة يفدى واحد منهم عادة بعشرة وآخر بعشرين [ ص: 208 ] وآخر بخمسة ( والقول للأسير ) بيمينه أشبه أم لا حيث لا بينة للفادي ( في ) إنكار ( الفداء ) من أصله كأن يقول بلا شيء ، ويقول الفادي بشيء ( أو ) إنكار ( بعضه ) كأن يقول بعشرة ، ويقول الفادي بخمسة عشر ( ولو لم يكن ) الأسير ( بيده ) أي بيد الفادي والصواب عكس المبالغة أي ، ولو كان بيده خلافا لسحنون القائل محل كون القول للأسير إذا لم يكن بيد الفادي فإن كان بيده فالقول للفادي .

التالي السابق


( قوله : وينبغي أو نائبه ) أي أو يقال قوله : للإمام أي حقيقة أو حكما فيدخل نوابه فالحصر المستفاد من تقديم الخبر بالنسبة لآحاد الناس فإن وقعت المهادنة من غير الإمام [ ص: 206 ] ونوابه مضت على ما قاله سحنون إن كانت صوابا فليست كالجزية لما تقدم أنها إن وقعت من غير الإمام ونوابه كانت باطلة ( قوله : أي صلح الحربي ) أي على ترك القتال والجهاد ( قوله : إن خلا إلخ ) الحاصل أن المهادنة لا تجوز إلا بشروط أربعة : الأول أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه . الثاني أن يكون لمصلحة . الثالث أن يخلو عقدها عن شرط فاسد . الرابع أن تكون مدتها معينة يعينها الإمام باجتهاده وندب أن لا تزيد على أربعة أشهر ( قوله : وإن كانت المصلحة في عدمها امتنعت ) أي وإن استوت المصلحة فيها وفي عدمها جازت ، وقوله : فاللام للاختصاص أي وحينئذ فكلام المصنف شامل للأقسام الثلاثة وقوله : لا للتخيير أي وإلا كان قاصرا على الأخير منها كما أنها إذا كانت بمعنى على كان قاصرا على الأول فقط .

( قوله : أو قرية ) أي أو شرط بقاء قرية لنا حالة كونها خالية منا لهم يسكنون فيها ( قوله : وإن بمال يدفعه أهل الكفر لنا ) أي : وإن كان الشرط الفاسد مصاحبا لمال يدفعه أهل الكفر لنا ، ولا يغتفر ذلك الشرط الفاسد لأجل المال الذي يدفعونه لنا أو : وإن كان الفساد بسبب إعطاء مال من المسلمين لهم ( قوله : وأما في منطوقه ) أي ، وهو الخلو عن الشرط الفاسد والمعنى وجاز للإمام المهادنة إن خلت عن شرط فاسد وإن بمال يدفعه الإمام لهم ، وهذا الاحتمال فيه نظر لاقتضائه جواز عقدها على إعطاء مال لهم من غير ضرورة ، وليس كذلك ، وأيضا متى دفع لهم مال لم تخل عن الشرط الفاسد فلا تصح المبالغة .

فلعل الأولى أن يقول : وإما في شيء من متعلقات المنطوق ، وهو الشرط الفاسد في حد ذاته أي ، وإن كان الشرط الفاسد مصورا إلخ بسبب مال ( قوله : إلا لخوف مما هو أشد إلخ ) أي كاستيلائهم على المسلمين فيجوز دفع المال لهم أو منهم فقد { شاور النبي صلى الله عليه وسلم لما أحاطت القبائل بالمدينة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في أن يترك للمشركين ثلث الثمار لما خاف أن يكون الأنصار ملت القتال فقالا إن كان هذا من الله فسمعنا وأطعنا ، وإن كان هذا رأيا فما أكلوا منها في الجاهلية ثمرة إلا بشراء أو قرى فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام فلما رأى النبي عزمهم على القتال ترك ذلك } فلو لم يكن الإعطاء عند الضرورة جائزا ما شاور رسولا لله فيه .

( قوله : ولا حد واجب لمدتها ) لا يقال هذا يخالف ما مر من أن شرط المهادنة أن تكون مدتها معينة ; لأنا نقول المراد أن شرطها أن يكون في مدة بعينها لا على التأبيد ، ولا على الإبهام ثم تلك المدة لا حد لها بل يعينها الإمام باجتهاده ( قوله : وهذا ) أي ندب عدم الزيادة على أربعة أشهر ( قوله : نبذه ) أي العهد الواقع بينه وبينهم على المهادنة وترك الجهاد ( قوله : للضرورة ) أي خوف الوقوع في الهلاك بالتمادي على العهد ( قوله : ووجب الوفاء إلخ ) يعني إذا عاهدناهم على المهادنة وترك القتال مدة وأخذنا منهم رهائن واشترطوا علينا أنه إذا فرغت مدة المهادنة نرد لهم رهائنهم فإنه يجب علينا الوفاء بذلك فنردهم لهم ولو أسلموا عندنا ( قوله : وإن لم يشترطوا إلخ ) أي كما هو رواية ابن القاسم عن مالك لجواز أن يفر من عندهم ، ويرجع لنا أو نفديه منهم ، وقال ابن حبيب لا نرد لهم الرهائن ولا الرسل إذا أسلموا ولو اشترطوا ردهم ، وقيل إن اشترطوا ردهم ، ولو أسلموا ردوا ، وإلا فلا ( قوله : كمن أسلم ) أي كشرطهم رد من جاء إلينا منهم ، وأسلم فإنه يوفى به هذا إذا كان غير رسول بل وإن كان رسولا جاءنا باختيارهم وبالغ على الرسول لمخالفة ابن الماجشون فيه ولئلا يتوهم أن شرطهم قاصر على من [ ص: 207 ] جاء منهم هاربا لا طائعا أو رسولا فأفاد أن الحكم عام .

( قوله : أو ممن أسلم ) أي أو ممن جاء منهم إلينا وأسلم ( قوله : فإن كان أنثى لم ترد ) أي لعموم قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } ، ولعله إلا لمفسدة أعظم ، وينبغي عدم الرد لعموم الآية ولو كان لنا عندهم مسلمة وأسروها وتوقف تخليصها على رد التي أسلمت منهم ( قوله : و أولى المسلم الأصلي الأسير ) أي سواء كان أسره ابتداء أو انتهاء فيشمل من ذهب إليهم طوعا فقبضوا عليه سواء كان حرا أو عبدا كما قال شيخنا ( قوله : وفدي بالفيء إلخ ) هذه طريقة ابن رشد ، وقيل يبدأ بماله فإن لم يكن فمن بيت المال فإن لم يكن أو تعذر الوصول إليه فمال جماعة المسلمين ، وهذه طريقة ابن حارث عن ابن عبدوس عن سحنون واختاره اللخمي . ا هـ . بن ( قوله : ثم بمال المسلمين ) أي الذين يمكن الأخذ منهم من أهل قطره فيقدم الأقرب فالأقرب ويؤخذ من كل واحد بقدر وسعه ، ويتولى الإمام أو نائبه جباية ذلك ، وقال أشهب يفدى بأموال المسلمين ولو أتى على جميعها ابن عرفة ما لم يخش استيلاء العدو عليهم بسبب ذلك بأن لا يوجد عندها ما يشترون به سلاحا ولا بارودا ، وكل من دفع شيئا من جماعة المسلمين فلا رجوع له به على الأسير المفدي ولو دفع بقصد الرجوع بخلاف الفادي المعين .

( قوله : ورجع بمثل المثلي وقيمة غيره إلخ ) مثله للباجي وابن بشير ، وقال ابن عبد السلام : الأظهر المثلي مطلقا ; لأنه قرض ، وقال ابن عرفة : الأظهر إن كان الفداء بقول المفدي أفدني وأعطيك الفداء فالمثل مطلقا ; لأنه قرض مطلقا لأنه قرض ، وإن كان بغيره فقول الباجي لأن السلعة المفدى بها لم يثبت لها تقرر في الذمة ولا التزام قبل صرفها في الفداء فصار دفعها في الفداء هلاكا لها فيرجع لقيمتها . ا هـ بن . ( قوله : إذا علم أو ظن إلخ ) متعلق برجع ، وأما إذا علم أو ظن أو شك أن الإمام يفديه من بيت المال أو مما يجمعه من المسلمين ، وفداه بقصد الرجوع فإنه لا رجوع له لحمله على التبرع والتفريط ، والحاصل أن الرجوع الفادي مقيد بما إذا كان معينا ، وكان غير بيت المال ، وكان عالما أو ظانا أن الإمام لا يفديه من بيت المال ، ولا مما يجبيه من المسلمين ، وأن لا يقصد بذلك الفداء صدقة ، وأن لا يمكن الخلاص بدونه فإن اختل شرط من هذه الشروط فلا رجوع له .

( قوله : أو لا قصد له ) أي لأن الشأن أن الإنسان لا يدفع ماله إلا بقصد الرجوع ( قوله : الواو بمعنى أو ) لا داعي لذلك فقد ذكر ابن رشد في المسألة خلافا هل لا بد في الرجوع من الالتزام مع الأمر بأن يقول له افدني وأعطيك الفداء أو يكفي في الرجوع الأمر بالفداء ، وإن لم يلتزمه ونسب الأول لفضل ، والثاني لابن حبيب فبان بهذا أن الواو على بابها ، وأن المصنف مشى على قول فضل ، وعبارة ابن الحاجب فلا رجوع إلا أن يأمره ملتزما . ا هـ . وهي تفيد أن الواو للجمع على بابها ، وقرره في التوضيح على ظاهره ونسبه لنقل الباجي عن سحنون . انظر بن ( قوله : وقدم على غيره ) يعني أن من فدى أسيرا من العدو ، وعلى ذلك الأسير دين فإن الفادي يقدم على أرباب الديون لأن الفداء آكد من الديون ; لأن الأسير لما جبر على الفداء دخل دين الفداء في ذمته جبرا عليه فيقدم على دينه الذي دخل في ذمته طوعا ولا فرق بين مال الأسير الذي قدم به من بلاد الحرب وماله الذي ببلد الإسلام في أن الفادي يقدم على أرباب الديون في الجميع ، وظاهره ولو كان دين غيره فيه رهن ، وهو كذلك على الظاهر ( قوله : ويفض الفداء على العدد ) فإذا فدى شخص جماعة كخمسين أسيرا بقدر معين وفيهم [ ص: 208 ] الغني والفقير والشريف والوضيع فيقسم الفداء على العدد من غير تفاضل بينهم إن جهل الكفار قدر الأسارى . ( قوله : وآخر بخمسة ) أي فالجملة خمسة وثلاثون فإذا فدى هؤلاء الثلاثة بمائة فإنها توزع عليهم كل واحد بحسب عادته فعلى من عادته عشرة سبعا المائة ; لأن سبعي الخمسة والثلاثين عشرة ، وعلى من عادته عشرون أربعة أسباعها ; لأن العشرين أربعة أسباع الخمسة والثلاثين وعلى من عادته خمسة سبع المائة ; لأن الخمسة سبع الخمسة والثلاثين ( قوله : والقول للأسير بيمينه أشبه أم لا في إنكار الفداء أو بعضه ) هذا قول ابن القاسم ، وإن كان كما قال ابن رشد ليس جاريا على قواعدهم والجاري عليها أنهما إذا اختلفا في مبلغ الفداء صدق الأسير إن أشبه ، وإلا صدق الفادي إن انفرد بالشبه ، وإلا حلفا ولربه فداء المثل ، وكذا إن نكلا ، وقضى للحالف على الناكل ( قوله : أي ، ولو كان بيده ) هذا قول ابن القاسم ، وقوله : للفادي أي ; لأن الأسير في يده بمنزلة الرهن




الخدمات العلمية