[ ص: 300 ] قوله عز وجل:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين
قالت فرقة: إن قول إبراهيم إني ذاهب إلى ربي كان بعد خروجه من النار، وأنه أشار بذهابه إلى هجرته من أرض بابل حيث كانت مملكة نمروذ، فخرج إلى الشام، ويروى: إلى بلاد مصر. وقالت فرقة: إن قوله: إني ذاهب ليس مراده به الهجرة كما في آية أخرى، وإنما مراده لقاء الله بعد الاحتراق; لكنه ظن أن النار سيموت فيها، فقال هذه المقالة قبل أن يطرح في النار، فكأنه قال: إني سائر بهذا العمل إلى ربي، وهو سيهديني إلى الجنة، نحا إلى هذا المعنى ، وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء، وهو محمل حسن في قتادة إني ذاهب وحده، والأول أظهر من نمط الآية بما بعده; لأن الهداية معه تترتب، والدعاء في الولد كذلك، ولا يصح مع ذهاب الفناء.
وقوله: من الصالحين ، "من" للتبعيض، أي: ولدا يكون في عداد الصالحين، وقوله: فبشرناه ، قال كثير من العلماء، منهم - وقد رفعه - العباس بن عبد المطلب وعلي، ، وابن عباس ، وابن مسعود وكعب ، وعبيد بن عميرة: هي البشارة المعروفة بإسحق، وهو الذبيح، وكان أمر ذبحه بالشام، وقال ، عطاء : كان ومقاتل ببيت المقدس، وقال بعضهم: بل بالحجاز، جاء مع أبيه على البراق، وقال رضي الله عنهما والبشارة التي بعد هذه في هذه الآية هي بشارة بنبوته، كما قال تعالى في ابن عباس موسى عليه السلام : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ، وهو قد كان وهبه له قبل ذلك، وإنما أراد النبوة، فكذلك هذه. وقالت هذه الفرقة في قول الأعرابي: "يا بن الذبيحين": أراد إسحق، والعم أب، وقيل: إنه أمر بذبحه بعد ما ولد له يعقوب، فلم يتعارض الأمر بالذبح مع البشارة بولده وولد ولده.
وقالت فرقة: هذه البشارة هي بإسماعيل عليه السلام وهو الذبيح، وأمر ذبحه كان محمد [ ص: 301 ] بالحجاز وبمنى، ثم رمى إبراهيم عليه السلام الشيطان بالجمرات، وقبض الكبش وسن السنن، وهذا قول أيضا، ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما، وروي عن ، الشعبي ، والحسن ، ومجاهد - ورفعه ومعاوية بن أبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم - معاوية ، وبه كان أبي رضي الله عنه يقول، ويستدل بقول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: ومحمد بن كعب وبقوله عليه الصلاة والسلام: "يا ابن الذبيحين" يعني "أنا ابن الذبيحين"، إسماعيل وعبد الله أباه، ويستدل بأن البشارة اقترنت بأن من ورائه يعقوب، فلو قيل له في صباه: اذبحه، لناقض ذلك البشارة بيعقوب عليه السلام، ويستدل بظاهر هذه الآية أنه بشر بإسماعيل، وانقضى أمر ذبحه، ثم بشر بإسحاق بعد ذلك، وسمعته يقول: كان إبراهيم يجيء من الشام إلى مكة على البراق زائرا ويعود من يومه. وقد ذكر ذلك عن الثعلبي ، ولم يذكر أن ذلك على البراق، وذكر القصة عن سعيد بن جبير ، وفيها ذكر البراق كما سمعت أبي يحكي. ابن إسحاق
وذكر أن الطبري رضي الله عنهما قال: الذبيح ابن عباس إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحق، وكذبت اليهود، وذكر أيضا أن رضي الله عنه سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه فقال: عمر بن عبد العزيز وإن اليهود تعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكون هذه الآية والفضل والله في أبيكم. الذبيح إسماعيل عليه السلام،
و"السعي" في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة، هذا قول ، ابن عباس ، ومجاهد . وقال وابن زيد : السعي على القدم، يريد سعيا متمكنا، وهذا في المعنى نحو الأول. وقرأ قتادة : "معه السعي وأسر في نفسه حزنا"، قال: وهكذا في حرف الضحاك ، وهي قراءة ابن مسعود ، قوله: الأعمش إني أرى في المنام أني أذبحك يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينيه، ورؤيا الأنبياء وحي، وعين له وقت الامتثال، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك، أي: إني رأيت في النوم ما يوجب أن أذبحك.
وقرأ جمهور الناس: "ماذا ترى" بفتح التاء والراء، وقرأ حمزة : "ماذا تري" بضم التاء وكسر الراء، على معنى: ما يظهر منك من جلد أو جزع، وهي قراءة والكسائي ، ابن مسعود والأسود بن يزيد، ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش . وقرأ ومجاهد ، الأعمش بضم التاء وفتح الراء، على الفعل المجهول. فأما الأولى فهي من [ ص: 302 ] رؤية الرأي، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو - في هذه الآية - إما "ماذا" تحملهما على أن تجعلهما بمنزلة اسم واحد، وإما "ذا" على أن تجعلها بمعنى الذي، وتكون "ما" استفهاما، وتكون الهاء محذوفة من الصلة. وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه، غير أن الفعل فيها منقول من: رأى زيد الشيء، وأريته إياه، إلا أنه من باب أعطيت، فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين. وأما القراءة الثانية فقد ضعفها والضحاك ، وتتجه على تحامل، وفي مصحف أبو علي رضي الله عنه: [افعل ما أمرت به]. عبد الله بن مسعود