الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد

الأعجمي هو الذي لا يفصح عربيا كان أو غير عربي، والعجمي: الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم، من أجل الحروف التي وقعت في القرآن وهي مما عرب من كلام العجم كالسجين والإستبرق ونحوه، فقال عز وجل: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت آياته. واختلف القراء في قوله: أأعجمي وعربي ، فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ ص: 491 ] وحفص عن عاصم ، والأعمش : [أأعجمي] بهمزتين، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين، أأعجمي وعربي مختلط؟ هذا لا يحسن، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم: أتجيئنا عجمة ونحن- عرب؟ ما لنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن البصري ، وأبو الأسود ، والجحدري، وسلام، والضحاك ، وابن عباس ، وابن عامر - بخلاف عنهما -: [أعجمي] دون استفهام وبسكون العين، كأنهم قالوا: أعجمة وإعراب.؟ إن هذا لشاذ، أوكأنهم قالوا: لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجميا يفهمه العجم، وبعضه عربيا يفهمه العرب؟ وهذا تأويل لابن جبير أيضا، وقرأ عمرو بن ميمون : [أعجمي] بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين، فأخبر الله تبارك وتعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل، لكان لهم قول واعتراض فاسد، هذا مقصد الكلام.

وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن القرآن هدى وشفاء للمؤمنين المبصرين للحقائق، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمى; لأنهم في آذانهم وقر، وعلى قلوبهم أقفال، وعلى أعينهم غشاوة. واختلف الناس في قوله تعالى: وهو عليهم عمى ، فقالت فرقة: يريد بـ"هو" القرآن، وقالت فرقة: [وهو] يريد به الوقر، والوقر: الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات، أي: هم لما لم يفهموا ولا حصلوا; كالأعمى وصاحب الوقر. وقرأ ابن عباس ، ومعاوية ، وعمرو بن العاصي : [وهو عليهم عم] بكسر الميم منونة، وقال يعقوب: لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي، وبغير ياء رواها عمرو بن دينار ، وسليمان بن قتة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذه القراءة أيضا فيها استعارة، وكذلك قوله تعالى: أولئك ينادون يحتمل معنيين، وكلاهما مقول للمفسرين: أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا تفهم تفاصيله ولا معانيه، وهذا تأويل مجاهد ، والآخر أن الكلام على الحقيقة، وأن المعنى: أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد، حتى يسمع ذلك أهل الموقف، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم .

ثم ضرب تعالى أمر موسى مثلا للنبي عليه الصلاة والسلام ولقريش، أي: فعل [ ص: 492 ] أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء، و"الكلمة السابقة" هي حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله تعالى: لفي شك منه يحتمل أن يعود على موسى عليه السلام أو على كتابه.

وقوله تعالى: من عمل صالحا فلنفسه الآية. نصيحة بينة للعالم وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئا من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية