الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير

إثارة السحب: تحريكها من سكونها وتسييرها، وبسطها في السماء هو نشرها في الآفاق، و"الكسف": القطع. وقرأ جمهور القراء: "كسفا" بفتح السين، وقرأ ابن عامر : "كسفا" بسكون السين، وهي قراءة الحسن، وأبي جعفر ، والأعرج ، وهما بناءان للجمع، كما يقال: "سدرة وسدر" بسكون الدال، و"سدر" بفتح الدال، وقال مكي : من أسكن السين فمعناه: يجعل السحاب قطعة واحدة، و"الودق": الماء يمطر، ومنه قول الشاعر:


فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها



و"خلاله": الفطور الذي بين بعضه وبعض; لأنه متحلل الأجزاء. وقرأ الجمهور: "من خلاله" بكسر الخاء وألف بعد اللام، جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ، والضحاك ، والحسن - بخلاف عنه -: "من خلله"، وهو اسم جنس. والضمير في "خلاله" يحتمل أن يعود على "السحاب"، ويحتمل أن يعود على "الكسف" في قراءة من قرأ بسكون السين، وذكر الضمير مراعاة [ ص: 34 ] للفظ لا لمعنى الجمع، كما تقول: "هذا تمر جيد"، و"من الشجر الأخضر نارا"، ومن قرأ: "كسفا" بفتح السين فلا يعيد الضمير إلا على السحاب فقط.

وقوله عز وجل: "من قبله" تأكيد أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: من قبل أن ينزل عليهم يحتمل الفسحة في الزمان، أي: من قبل ذلك، أي: من قبل أن ينزل بكثير كالأيام ونحوه، فجاء قوله: "من قبله" بمعنى أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مفيد. وقرأ يعقوب، وعيسى ، وأبو عمرو - بخلاف عنه -: "ينزل" مخففة، وقرأت عامة القراء بالتثقيل في الزاي، وقرأ ابن مسعود : "عليهم لمبلسين" بسقوط "من قبله". و"الإبلاس": الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها.

ثم عجبه بمخاطبة يراد بها جميع الناس من أجل رحمة الله وهي المطر، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، "أثر" بالإفراد، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "آثار" بالجمع، واختلف عن عاصم .

وقوله: كيف يحيي يحتمل أن يكون الضمير الذي في الفعل للأثر، ويحتمل أن يكون لله تعالى، وهو أظهر. وقرأت فرقة: "كيف تحيا" بالتاء المفتوحة "الأرض" بالرفع. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: "تحيي" بتاء مضمومة على أن إسناد الفعل إلى ضمير الرحمة نصبا. قال أبو الفتح: قوله: "كيف تحيي" جملة منصوبة الموضع على الحال حملا على المعنى، كأنه قال: "محيية، وهذه الحياة [ ص: 35 ] والموت استعارة في القحط والإعشاب. ثم أخبر تبارك وتعالى - على جهة القياس والتنبيه عليه - بالبعث والنشور، وقوله سبحانه: على كل شيء عموم.

التالي السابق


الخدمات العلمية