الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين

قوله تعالى: "كذلك" إشارة إلى إنعامه على نوح بالإجابة كما اقترح، وأثنى تعالى [ ص: 295 ] على نوح بالإحسان لصبره على أذى قومه ومطاولته لهم، وغير ذلك من عبادته وأفعاله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: ثم أغرقنا الآخرين يقتضي أنه أغرق قوم نوح وأمته ومكذبيه، وليس في ذلك نص على أن الغرق عم جميع أهل الأرض، ولكن قد قالت جماعة من العلماء، وأسندت أحاديث بأن الغرق عم جميع الناس إلا من كان معه في السفينة، وعلى هذا ترتب القول بأن الناس اليوم من ذريته، وقالوا: لم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة; لأن عهد آدم كان قريبا، وكانت دعوة نوح ونبوته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم، فكان الجميع كفرة عبدة أوثان لم ينسبهم الحق إلى نفسه، فلذلك أغرق جميعهم.

وقوله تعالى: من شيعته ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي : الضمير عائد على نوح عليه السلام، والمعنى: في الدين والتوحيد، وقال الطبري وغيره عن الفراء : الضمير عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة إليه. وذلك كله محتمل; لأن "الشيعة" معناها: الصنف الشائع الذي يشبه بعضه بعضا، والشيع: الفرق، وإن كان الأعرف أن المتأخر في الزمن هو شيعة للمتقدم، ولكن قد يجيء من الكلام عكس ذلك، قال الشاعر:


وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب



فجعلهم شيعة لنفسه. وقوله: بقلب سليم ، قال المفسرون: يريد: من الشك والشرك وجميع النقائص التي تلحق قلوب بني آدم كالغل والحسد والكبر ونحوه، قال عروة بن الزبير : لم يلعن شيئا قط.

وقوله تعالى: أإفكا آلهة دون الله تريدون ، "أئفكا" استفهام بمعنى التقرير، أي: أكذبا ومحالا آلهة دون الله تريدون؟ ونصب "آلهة" على البدل من إفكا، وسهلت الهمزة [ ص: 296 ] الأصلية من الإفك. فما ظنكم توبيخ وتحذير وتوعد.

ثم أخبر تعالى عن نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم، وروي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه، فدعوا إبراهيم عليه السلام للخروج معهم، فنظر حينئذ واعتذر بالسقم، وأراد البقاء خلافهم إلى الأصنام، وقال ابن زيد ، عن أبيه: أرسل إليه ملكهم أن غدا عيد فاحضر معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي، فقالت فرقة: معنى فنظر نظرة في النجوم أي: فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، وقال الجمهور: نظر نجوم السماء، وروي أن علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم.

واختلف في قوله: إني سقيم ، فقالت فرقة: هي كذبة في ذات الله، أخبرهم عن نفسه أنه مريض، وأن الكوكب أعطاه ذلك، وقال ابن عباس وغيره: أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون، ولذلك تولوا مدبرين، أي: فارين منه. وقال بعضهم: بل تولوا مدبرين لكفرهم واحتقارهم لأمره، وعلى هذا التأويل - في أنها كذبة - يجيء الحديث: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة: هي أختي".

[ ص: 297 ] وقالت فرقة: ليست بكذبة، ولا يجوز الكذب عليه، ولكنها من المعاريض، أخبرهم بأنه سقيم في المال، وعلى عرف ابن آدم; لأن ابن آدم لابد أن يسقم ضرورة. وقيل على هذا -: أراد: إني سقيم النفس من أموركم وكفركم، فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقما بالجسد حاضرا، وهكذا هي المعاريض. وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات; لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر، والكذب الذي هو قصد قول الباطل والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية هو الذي لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية