الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1985 43 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن خباب قال: كنت قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لا أكفر، حتى يميتك الله، ثم تبعث، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالا وولدا، فأقضيك، فنزلت: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "كنت قينا في الجاهلية".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم سبعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: محمد بن بشار قد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ابن أبي عدي بفتح العين المهملة وكسر الدال، وهو محمد بن أبي عدي، واسمه إبراهيم.

                                                                                                                                                                                  الثالث: شعبة بن الحجاج.

                                                                                                                                                                                  الرابع: سليمان الأعمش.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو الضحى بضم الضاد المعجمة، واسمه مسلم بن صبيح، وقد مر غير مرة.

                                                                                                                                                                                  السادس: مسروق بن الأجدع، والأجدع لقب عبد الرحمن أبوه.

                                                                                                                                                                                  السابع: خباب - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة الأولى - ابن الأرت، وقد مر في الصلاة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه العنعنة في خمسة مواضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن شيخه يلقب ببندار، ويكنى بأبي بكر، وهو وشيخه بصريان، وشعبة واسطي سكن البصرة، والبقية كوفيون.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المظالم عن إسحاق، وفي التفسير عن بشر بن خالد.

                                                                                                                                                                                  وفيه أيضا عن الحميدي، وعن محمد بن كثير، وعن يحيى بن وكيع، وفي الإجارة عن عمرو بن حفص. وأخرجه مسلم في ذكر المنافقين، عن أبي بكر وأبي سعيد الأشج، وعن أبي كريب. وعن ابن نمير، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعن إبراهيم بن أبي عمر به. وأخرجه الترمذي في التفسير، عن ابن أبي عمر به، وعن هناد بن السري. وأخرجه النسائي فيه، عن محمد بن العلاء به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "كنت قينا " أي حدادا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "على العاص بن وائل" بالهمزة بعد الألف، وذكر ابن الكلبي عن جماعة في الجاهلية أنهم كانوا زنادقة، منهم العاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأبي بن خلف.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأتيته أتقاضاه" أي فأتيت العاص أطلب منه ديني، قال مقاتل: صاغ خباب للعاصي شيئا من الحلي، فلما طلب منه الأجر قال: ألستم تزعمون أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان؟ قال خباب: نعم، قال العاص: فميعاد ما بيننا الجنة. وقال الواحدي: قال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا، وكان يعمل للعاص بن وائل، وكان العاصي يؤخر حقه، فأتاه يتقاضاه، فقال: ما عندي اليوم ما أقضيك، فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضيني، فقال العاصي: يا خباب، ما لك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن الطلب، قال: ذلك إذا كنت على دينك، وأما اليوم فإنا على الإسلام، قال: أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال: بلى، قال: فأخرني حتى أقضيك في الجنة - استهزاء - فوالله إن كان ما تقول حقا إني لأفضل فيها نصيبا منك، فأنزل الله تعالى الآية. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الآية هي قوله تعالى: أفرأيت الذي كفر بآياتنا

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: لا أعطيك" أي فقال العاصي: لا أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله، ثم تبعث" وفي رواية مسلم "فقلت له: لن أكفر به حتى تموت، ثم تبعث" وفي رواية الترمذي: "فقلت: لا، حتى تموت، ثم تبعث قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ فقلت: نعم، فقال: إن لي هنالك مالا وولدا، فأقضيك" فنزلت: أفرأيت الذي كفر الآية.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): من عين للكفر أجلا فهو كافر الآن إجماعا، فكيف يصدر هذا عن خباب ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد؟!

                                                                                                                                                                                  (قلت): لم يرد به خباب هذا، وإنما أراد: لا تعطيني حتى تموت وتبعث، أو إنك لا تعطيني ذلك في الدنيا، فهنالك يؤخذ قسرا منك، وقال أبو الفرج: لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه يبعث خاطبه على اعتقاده، فكأنه قال: لا أكفر أبدا. وقيل: أراد خباب أنه إذا بعث لا يبقى كفر; لأن الدار دار الآخرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: [ ص: 210 ] "حتى أموت" بالنصب أي حتى أن أموت.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأبعث" عطف عليه على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فسأوتى" على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فنزلت: أفرأيت الذي كفر بآياتنا " أي فنزلت هذه الآية، وهو قوله تعالى: أفرأيت الذي الآية.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أفرأيت " لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما، وإلى صحة الخبر عنها، استعملوا "أرأيت" في معنى أخبر، والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، وأذكر حديثه عقب حديث أولئك، والفاء بعد همزة الاستفهام عاطفة على جملة "الذي" يعني العاص بن وائل " كفر بآياتنا " أي بالقرآن " وقال لأوتين "أي لأعطين" مالا وولدا " يعني في الجنة بعد البعث. وقرأ حمزة والكسائي: "ولد" بضم الواو وسكون اللام، وقرأ الباقون بفتحهما، وهما لغتان، كالعرب والعرب. وقيس تجعل الولد جمعا، والولد واحدا، وفي (ديوان الأدب) للفارابي في باب فعل بضم الفاء وسكون العين: الولد لغة في الولد، ويكون واحدا وجمعا، وذكره أيضا في باب فعل بكسر الفاء وسكون العين، وذكره أيضا في باب فعل بفتح الفاء والعين "الولد" وفي (المحكم) الولد والولد ما ولد أيا ما كان، وهو يقع على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، وقد يجوز أن يكون الولد جمع ولد، كوثن ووثن، والولد كالولد ليس بجمع، والولد أيضا الرهط.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أطلع الغيب " عن ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ، وعن مجاهد: أعلم علم الغيب، حتى يعلم أفي الجنة هو أو لا؟! من قولهم: أطلع الجبل، إذا ارتقى إلى علاه، وطلع الثنية.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أم اتخذ عند الرحمن عهدا " عن ابن عباس: أم قال: لا إله إلا الله؟! وعن قتادة: أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه؟!

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه أن الحداد لا يضره مهنة صناعته إذا كان عدلا، قال أبو العتاهية:


                                                                                                                                                                                  ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم وليس على حر تقي نقيصة
                                                                                                                                                                                  إذا أسس التقوى وإن حاك أو حجم



                                                                                                                                                                                  وفيه "أن الكلمة من الاستهزاء يتكلم بها المرء فيكتب له بها سخطة إلى يوم القيامة "ألا ترى وعيد الله على استهزائه بقوله: سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا يعني من المال والولد، بعد إهلاكنا إياه، ويأتينا فردا، أي نبعثه وحده تكذيبا لظنه.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز الإغلاط في اقتضاء الدين لمن خالف الحق وظهر منه الظلم والعدوان.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية