ثم قال : فصل في
nindex.php?page=treesubj&link=28431ترتيب الخصوم في الجدل . اعلم أنه لا يخلو الخصم في الجدل من أن يكون في طبقة خصمه ، أو أعلى أو أدون فإن كان في طبقته : كان قوله له : الحق في هذا كذا دون كذا من قبل كيت وكيت ، ولأجل كذا وعلى الآخر : أن يتحرى له الموازنة في الخطاب . فذلك أسلم للقلوب ، وأبقى لشغلها عن ترتيب النظر فإن التطفيف في الخطاب يعمي القلب عن فهم السؤال والجواب . وإن كان أعلى فليتحر ، ويجتنب القول له : هذا خطأ ، أو غلط ، أو ليس كما تقول ، بل يكون قوله له : أرأيت إن قال قائل يلزم على ما ذكرت كذا ؟ وإن اعترض على ما ذكرت معترض بكذا . فإن نفوس الكرام الرؤساء المقدمين تأبى خشونة الكلام ; إذ لا عادة لهم بذلك ، وإذا نفرت النفوس عميت القلوب ، وجمدت الخواطر وانسدت أبواب الفوائد ، فحرمت كل الفوائد ، بسفه السفيه ، وتقصير الجاهل في حقوق الصدور ، وقد أدب الله تعالى أنبياءه في خطابهم للرؤساء من أعدائه ، فقال
لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام في حق
فرعون {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فقولا له قولا لينا } .
سمعت بعض المشايخ في علوم القرآن ، يقول : صفة هذا القول اللين في قوله تعالى
[ ص: 588 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=17اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى } وما ذاك إلا مراعاة لقلبه ، حتى لا ينصرف بالقول الخشن عن فهم الخطاب ، فكيف برئيس تقدم في العلم تطلب فوائده ، وترجو الخير في إيراده ، وما تسنح له خواطره ؟ فأحرى بنا أن نذلل له العبارة ، ونوطئ له جانب الجدل ، لتنهال فوائده انهيالا وفي الجملة والتفصيل : الأدب معيار العقول ومعاملة الكرام ، وسوء الأدب مقطعة للخير ومدمغة للجاهل ، فلا تتأخر إهانته ، ولو لم يكن إلا هجرانه وحرمانه ، وأما الأدون فيكلم بكلام لطيف ، إلا أنه يجوز أن يقال له ، إذا أتى بالخطإ : هذا خطأ . وهذا غلط من قبل كذا ليذوق مرارة سلوك الخطإ فيجتنبه ، وحلاوة الصواب فيتبعه .
ورياضة هذا واجبة على العلماء ، وتركه سدى مضرة له ، فإن عود الإكرام الذي يستحقه الأعلى طبقة : أخلد إلى خطئه ، ولم يزغه عن الغلط وازع ، ومقام التعليم والتأديب تارة بالعنف ، وتارة باللطف ، وسلوك أحدهما يفوت فائدة الآخر ، قال الله - سبحانه وتعالى - {
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=10وأما السائل فلا تنهر } وقيل في التفسير : إنه السائل في العلوم دون سؤال المال ، وقيل : هو عام فيهما ، والله تعالى أعلم .
ثُمَّ قَالَ : فَصْلٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28431تَرْتِيبِ الْخُصُومِ فِي الْجَدَلِ . اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْخَصْمُ فِي الْجَدَلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةِ خَصْمِهِ ، أَوْ أَعْلَى أَوْ أَدْوَنَ فَإِنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ : كَانَ قَوْلُهُ لَهُ : الْحَقُّ فِي هَذَا كَذَا دُونَ كَذَا مِنْ قِبَلِ كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَلِأَجْلِ كَذَا وَعَلَى الْآخَرِ : أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْمُوَازَنَةَ فِي الْخِطَابِ . فَذَلِكَ أَسْلَمُ لِلْقُلُوبِ ، وَأَبْقَى لِشَغْلِهَا عَنْ تَرْتِيبِ النَّظَرِ فَإِنَّ التَّطْفِيفَ فِي الْخِطَابِ يُعْمِي الْقَلْبَ عَنْ فَهْمِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ . وَإِنْ كَانَ أَعْلَى فَلْيَتَحَرَّ ، وَيَجْتَنِبَ الْقَوْلَ لَهُ : هَذَا خَطَأٌ ، أَوْ غَلَطٌ ، أَوْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ لَهُ : أَرَأَيْت إنْ قَالَ قَائِلٌ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْت كَذَا ؟ وَإِنْ اعْتَرَضَ عَلَى مَا ذَكَرْت مُعْتَرِضٌ بِكَذَا . فَإِنَّ نُفُوسَ الْكِرَامِ الرُّؤَسَاءِ الْمُقَدَّمِينَ تَأْبَى خُشُونَةَ الْكَلَامِ ; إذْ لَا عَادَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ ، وَإِذَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَمِيَتْ الْقُلُوبُ ، وَجَمَدَتْ الْخَوَاطِرُ وَانْسَدَّتْ أَبْوَابُ الْفَوَائِدِ ، فَحَرُمَتْ كُلُّ الْفَوَائِدِ ، بِسَفَهِ السَّفِيهِ ، وَتَقْصِيرِ الْجَاهِلِ فِي حُقُوقِ الصُّدُورِ ، وَقَدْ أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ فِي خِطَابِهِمْ لِلرُّؤَسَاءِ مِنْ أَعْدَائِهِ ، فَقَالَ
لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ
فِرْعَوْنَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا } .
سَمِعْت بَعْضَ الْمَشَايِخِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ ، يَقُولُ : صِفَةُ هَذَا الْقَوْلِ اللَّيِّنِ فِي قَوْله تَعَالَى
[ ص: 588 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=17اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَك إلَى أَنْ تَزَكَّى } وَمَا ذَاكَ إلَّا مُرَاعَاةً لِقَلْبِهِ ، حَتَّى لَا يَنْصَرِفَ بِالْقَوْلِ الْخَشِنِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ ، فَكَيْفَ بِرَئِيسٍ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ تَطْلُبُ فَوَائِدَهُ ، وَتَرْجُو الْخَيْرَ فِي إيرَادِهِ ، وَمَا تَسْنَحُ لَهُ خَوَاطِرُهُ ؟ فَأَحْرَى بِنَا أَنْ نُذَلِّلَ لَهُ الْعِبَارَةَ ، وَنُوَطِّئَ لَهُ جَانِبَ الْجَدَلِ ، لِتَنْهَالَ فَوَائِدُهُ انْهِيَالًا وَفِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ : الْأَدَبُ مِعْيَارُ الْعُقُولِ وَمُعَامَلَةُ الْكِرَامِ ، وَسُوءُ الْأَدَبِ مَقْطَعَةٌ لِلْخَيْرِ وَمَدْمَغَةٌ لِلْجَاهِلِ ، فَلَا تَتَأَخَّرُ إهَانَتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا هِجْرَانُهُ وَحِرْمَانُهُ ، وَأَمَّا الْأَدْوَنُ فَيُكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَطِيفٍ ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ، إذَا أَتَى بِالْخَطَإِ : هَذَا خَطَأٌ . وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ كَذَا لِيَذُوقَ مَرَارَةَ سُلُوكِ الْخَطَإِ فَيَجْتَنِبَهُ ، وَحَلَاوَةَ الصَّوَابِ فَيَتْبَعَهُ .
وَرِيَاضَةُ هَذَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَتَرْكُهُ سُدًى مَضَرَّةٌ لَهُ ، فَإِنْ عُوِّدَ الْإِكْرَامَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَعْلَى طَبَقَةً : أَخْلَدَ إلَى خَطَئِهِ ، وَلَمْ يُزِغْهُ عَنْ الْغَلَطِ وَازِعٌ ، وَمَقَامُ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ تَارَةً بِالْعُنْفِ ، وَتَارَةً بِاللُّطْفِ ، وَسُلُوكُ أَحَدِهِمَا يُفَوِّتُ فَائِدَةَ الْآخَرِ ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=10وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } وَقِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : إنَّهُ السَّائِلُ فِي الْعُلُومِ دُونَ سُؤَالِ الْمَالِ ، وَقِيلَ : هُوَ عَامٌّ فِيهِمَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .