الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( و ) من النص أيضا ( إيماء وتنبيه ) يعني أن النص ينقسم إلى ثلاثة أقسام . الأول : الصريح ، والثاني : الظاهر ، والثالث : الإيماء والتنبيه . والإيماء : هو اقتران الوصف بحكم لو لم يكن الوصف - أو نظيره - للتعليل لكان ذلك [ ص: 512 ] الاقتران بعيدا من فصاحة كلام الشارع ، وكان إتيانه بالألفاظ في غير مواضعها ، مع كون كلام الشارع منزها عن الحشو الذي لا فائدة فيه . ويتنوع الإيماء إلى أنواع أشير إليها بقوله ( ومن أنواعه : ترتب حكم عقب وصف بالفاء ، من كلام الشارع وغيره ) ، ( فإنها ) أي الفاء ( للتعقيب ظاهرا ، ويلزم منه السببية ) نحو قوله تعالى { قل هو أذى فاعتزلوا } وقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا } وقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } ونحو قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته . فالفاء في الآيات داخلة على الحكم ، وفي الحديث داخلة على العلة ، والحكم متقدم ، وتقدم العلة ثم مجيء الحكم بالفاء أقوى من عكسه . وتارة تأتي " الفاء " في غير كلام الشارع ، كقول عمران بن حصين رضي الله عنه { سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد } رواه أبو داود وغيره . { زنى ماعز فرجم } .

ولا فرق في العمل بذلك بين كون الراوي صحابيا أو فقيها أو غيرهما ; لكن إذا كان صحابيا فقيها كان أقوى . فإن قيل : إذا قال الراوي : هذا الحديث منسوخ ، أو حمل حديثا رواه على غير ظاهره ، لا يعمل به ; لجواز أن يكون عن اجتهاد . فكيف إذا قال للراوي { سها فسجد } ونحوه يعمل به ، مع احتمال أن يكون عن اجتهاد ؟ فالجواب : أن هذا من قبيل فهم الألفاظ من حيث اللغة ، لا أنه يرجع للاجتهاد ، بخلاف قوله : هذا منسوخ ونحوه . ولهذا لو قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، أو نهى عن كذا : يعمل به ، حملا على الرفع ، لا على الاجتهاد . إذا علم ذلك : فإذا رتب الشارع حكما عقب وصف بالفاء ، إذ الفاء للتعقيب ، فتفيد تعقيب حكم الوصف ، وأنه سببه ، إذ السبب ما ثبت الحكم عقبه . ولهذا تفهم السببية - مع عدم المناسبة ك { من مس ذكره فليتوضأ } والصحيح : أن هذا نوع من الإيماء . وقيل : من أقسام الصريح . وقيل : من أقسام الظاهر .

( و ) من أنواع الإيماء أيضا ( ترتب حكم على وصف بصيغة الجزاء ) نحو قوله تعالى { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } وقوله تعالى { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } وقوله تعالى { [ ص: 513 ] ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي لتقواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم { من اتخذ كلبا - إلا كلب صيد أو ماشية - نقص من أجره كل يوم قيراطان } وكذا ما أشبهه .

فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه ، ولا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده . ( و ) من أنواعه أيضا ( ذكر حكم جوابا لسؤال لو لم يكن ) السؤال ( علته ) أي علة الحكم ل ( كان اقترانه ) أي السؤال ( به ) أي بالحكم ( بعيدا شرعا ولغة ) أي في الشرع واللغة ( ولتأخر البيان ) أي ولكان يلزم على ذلك تأخير البيان ( عن وقت الحاجة ) ، ( كقول الأعرابي { واقعت أهلي في رمضان ، فقال : أعتق رقبة } ) أخرجه الستة . وهذا لفظ ابن ماجه . فكأنه قيل : كفر ; لكونك واقعت في نهار رمضان ، فكان الحذف الذي ترتب عليه الحكم لفظا موجودا هنا . فيكون موجودا تقديرا ، وأيضا لو كان المراد غير ذلك كان يلزم خلو السؤال عن الجواب ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة .

( ويسمى ) هذا النوع ( إن حذف ) منه ( بعض الأوصاف ) المترتب عليها الجواب ; لكونه لا مدخل له في العلة ، ككونه أعرابيا أو زيدا ، وكون المجامعة زوجة أو أمة ، أو في قبلها ، وكونه شهر تلك السنة أو غيرها ( تنقيح المناط ) فالتنقيح لغة : التخليص والتهذيب . يقال : نقحت العظم إذا استخرجت مخه . والمناط : مفعل من ناط نياطا أي علق والمراد أن الحكم تعلق بذلك الوصف فمعنى تنقيح المناط : الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به الشارع الحكم ، فيبقى من الأوصاف ما يصلح ويلغى ما لا يصلح وقد أقر به أكثر منكري القياس . و أجراه أبو حنيفة في الكفارات ، مع منعه القياس فيها . وذكر جماعة - كالتاج السبكي والبرماوي وغيرهما - أنه أجود مسالك العلة بأن يبين إلغاء الفارق .

التالي السابق


الخدمات العلمية