مسألة : ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر
ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر ،
بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط ويكون مأمورا بتقديم الشرط ، فيجوز أن كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالرسل . وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك ، والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع . أما الجواز العقلي فواضح ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع { يخاطب الكفار بفروع الإسلام } وأنتم مأمورون بجميعها وبتقديم الإسلام من جملتها ، فيكون الإيمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات كما في المحدث والملحد . بني الإسلام على خمس
فإن منع مانع الجميع وقال : كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله ، والمحدث لا يقدر على الصلاة فهو مأمور بالوضوء فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الأمر بالصلاة ؟ قلنا : فينبغي أن يقال لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة ; لأنه لم يؤمر قط بالصلاة ، وهذا خلاف الإجماع . وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير ، فإنه يشترط تقديمه ، ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا ثم بالكاف ثانيا وعلى هذا الترتيب .
وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية . وأما الوقوع الشرعي فنقول : كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالأحرار والمقيمين والأصحاء والطاهرات دون الحيض ; ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم ، وأدلته ثلاثة ، الأول : قوله تعالى : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } الآية ، فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به .
فإن قيل : هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا : ذكره الله - تعالى - في معرض التصديق لهم بإجماع الأمة وبه يحصل التحذير ، إذ لو كان كذبا لكان كقولهم : عذبنا ; لأنا مخلوقون وموجودون ، كيف وقد عطف عليه قوله : { وكنا نكذب بيوم الدين } فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه ؟ فإن قيل : العقاب بالتكذيب لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه . قلنا : لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها .
فإن قيل : عوقبوا لا بترك الصلاة لكن لإخراجهم أنفسهم بترك الإيمان عن العلم بقبح ترك الصلاة . قلنا : هذا باطل من أوجه : أحدها : أنه ترك للظاهر من غير ضرورة ولا دليل ، فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة ، وقد قالوا { لم نك من المصلين } الثاني : أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر ; لأن كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات ، والتسوية بينهما خلاف الإجماع . الثالث : أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الإيمان ; لأنه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والإيمان .
فإن قيل : لم [ ص: 74 ] نك من المصلين أي من المؤمنين ، لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم : { } أي : المؤمنين لكن عرفهم بما هو شعارهم . قلنا : هذا محتمل ، لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل ولا دليل للخصم . الدليل الثاني : قوله تعالى : { نهيت عن قتل المصلين والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } إلى قوله تعالى : { يضاعف له العذاب } فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب . الدليل الثالث انعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول كما يعذب على الكفر بالله - تعالى - .
وهذا يهدم معتمدهم ، إذ قالوا : لا تتصور العبادة مع الكفر فكيف يؤمر بها ؟ احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم ، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله ؟ قلنا : وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه ، لكن إذا أسلم عفي له عما سلف ، فالإسلام يجب ما قبله . ولا يبعد نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال ، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام ؟ فإن قيل : إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الإسلام ، والإسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط ، فالاستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه ثم الحكم بسقوطه .
قلنا : لا بعد في قولنا استقر الوجوب بالإسلام وسقط بحكم العفو ، فليس في ذلك مخالفة نص ، ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش ، وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الأنبياء والأولياء وشوش الدين وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك ، فما ذكرناه أولى . فإن قيل : فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي ؟ قلنا : القضاء إنما وجب بأمر مجدد فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه ، إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالأداء ، وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء .
وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالإسلام القضاء والكافر لم يلتزم . وهذا ضعيف ، فإن ما ألزمه الله - تعالى - فهو لازم ، التزمه العبد أو لم يلتزمه . فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات وترك المحظورات ، فينبغي أن لا يلزمه ذلك .