الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي ; فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل ، عن الكلالة : " أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ، ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان : الكلالة ما عدا الوالد ، والولد " . ، ومن ذلك أنه ورث أم الأم دون أم الأب ، فقال له بعض الأنصار : لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها ، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس . ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء ، فقال عمر : لا نجعل من ترك دياره ، وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل الإسلام كرها ، فقال أبو بكر : إنما أسلموا لله ، وأجورهم على الله ، وإنما الدنيا بلاغ ، ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ، ووزع على تفاوت درجاتهم . واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها ، واجتهاد عمر أنه لولا الإسلام لما استحقوها ، فيجوز أن يختلفوا ، وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل .

              ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : " أقضي في الجد برأيي ، وأقول فيه برأيي " ، وقضى بآراء مختلفة ، وقوله من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه " أي : الرأي العاري عن الحجة ، وقال لما سمع الحديث في الجنين : " لولا هذا لقضينا فيه برأينا " ، ولما قيل له في مسألة المشتركة : هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة ؟ أشرك بينهم بهذا الرأي ، ومن ذلك أنه قيل لعمر : إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور ، وخللها ، وباعها ، فقال : قاتل الله سمرة أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها ، وأكلوا أثمانها } ؟ فقاس عمر الخمر على الشحم ، وأن تحريمها تحريم لثمنها .

              ، وكذلك جلد أبا بكرة لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا ، لكنه قاسه على القاذف ، وقال علي رضي الله عنه : " اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع ورأيت الآن بيعهن " فهو تصريح بالقول بالرأي .

              وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الأشعري : " اعرف الأشباه ، والأمثال ثم قس الأمور برأيك " .

              ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام : " إن اتبعت رأيك فرأيك أسد ، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان " ، فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جميعا ، وقال عثمان ، وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين المملوكتين : " أحلتهما آية ، وحرمتهما آية " .

              ، وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي .

              ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب من شرب هذى ، ومن هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري " ، وهو قياس للشرب على القذف ; لأنه مظنة القذف ، التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشيء منزلته ، كما أنزل النوم منزلة الحديث ، والوطء في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ، ونظائره .

              ، ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا ، وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ، ويقول : " الأمر في القضاء بالكتاب ، والسنة ، وقضايا الصالحين فإن لم يكن شيء من ذلك فاجتهد رأيك " ، ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم { : أجتهد رأيي عند فقد الكتاب ، والسنة فزكاه النبي عليه السلام } .

              ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الأسنان لاختلاف منافعها : " كيف لم يعتبروا الأصابع ؟ " . [ ص: 288 ] وقال في العول من شاء باهلته " الحديث ، ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال : " لا أحسب كل شيء إلا مثله " ، وقال في المتطوع إذا بدا له الإفطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ، ثم بدا له ، ومن ذلك قول زيد في الفرائض ، والحجب ، وميراث الجد .

              ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج ، وأبوين قال ابن عباس : أين ، وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي ؟ فقال زيد : أقول برأيي ، وتقول برأيك . فهذا ، وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور ، وما من مفت إلا ، وقد قال بالرأي ، ومن لم يقل ; فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد ، ولم يعترض عليهم في الرأي فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي .

              وجه الاستدلال أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها فلا يخلو إما أن يكون فيها دليل قاطع على حكم معين أو لم يكن ، فإن لم يكن ، وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد ، وإن كان فمحال إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه ، ولو أظهره ، وكان قاطعا لما خالفه أحد ، ولو خالفه لوجب تفسيقه ، وتأثيمه ، ونسبته إلى البدعة ، والضلال ، ولوجب منعه من الفتوى ، ومنع العامة من تقليده ، هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله ، وقد قال به قوم ، وإن كنا لا نراه .

              وعلى الجملة فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا ، وكان المحق بالسكوت عن المخالف ، وترك دعوته إلى الحق فاسقا ، فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم ، وليس هذا كالعقليات ، فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا .

              أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر ، وقد قال أهل الظاهر : إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل ، كقوله تعالى : { وورثه أبواه فلأمه الثلث } فمعقول هذا أن لأبيه الثلثين ، وقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } فمعقوله تحريم التجارة ، والجلوس في البيت ، وقوله : { ولا تظلمون فتيلا } ، و { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } ، و { فلا تقل لهما أف } فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس ، ولا يخفى هذا على عامي فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل ؟ هذا تمهيد الدليل ، وتمامه بدفع الاعتراضات

              وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة ، وهو قول النظام ، وقد فرغنا من إثباته ، وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس من حيث إن ما ذكرنا منقول عن بعضهم ، وليس للباقين إلا السكوت ، وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي ، وتارة يسلمون السكوت لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض لا على الموافقة في الرأي ، وتارة يقرون بالإجماع ، ولا يكترثون بتفسيق الصحابة ، وتارة يردون رأيهم إلى العمومات ، ومقتضى الألفاظ ، وتحقيق مناط الحكم دون القياس .

              فهذه مدارك اعتراضاتهم ، وهي خمسة :

              الاعتراض الأول : قال الجاحظ - حكاية عن النظام - : إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ، ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من إعمال الرأي ، والقياس ، لم يقع بينهم التهارج ، والخلاف ، ولم يسفكوا الدماء ، لكن لما عدلوا عما كلفوا ، وتخيروا ، وتآمروا ، وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا ، وتورطوا فيما كان بينهم من القتل ، والقتال

              وكذلك الرافضة [ ص: 289 ] بأسرهم زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا ، وغصبوا الحق أهله ، وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى القيامة ، فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف .

              وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي ففسق ، وضل ، ونسبهم إلى الضلال ، ويدل على فساد قوله ما دل على أن الأمة لا تجتمع على الخطأ ، وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن ، والأخبار عليهم كما نذكر في كتاب الإمامة ، وكيف يعتقد العاقل القدح فيمن أثنى الله تعالى ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام ؟

              الاعتراض الثاني : قولهم : لا يصح الرأي ، والقياس إلا من بعضهم ، وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم ، فإن فيهم من لم يخض في القياس ، وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه : إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ثم شرع في ثلب العبادلة ، وقال : كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم ، وأثنى على العباس ، والزبير إذ تركا القول بالرأي ، ولم يشرعا .

              ، وقال الداودية : لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي ، والتخطئة فيه ، إذ قال أبو بكر : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي ، وقال : أقول في الكلالة برأيي فإن يكن خطأ فمني ، ومن الشيطان ، وقال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين : إن اجتهدوا فقد أخطئوا ، وإن لم يجتهدوا فقد غشوا . ، وقالت عائشة رضي الله عنها : أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة . ، وقال ابن عباس : من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف ، والثلثين ، وقال : ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا ، وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة : إن يك خطأ فمني ، ومن الشيطان ، وقال عمر : إياكم ، وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا ، وأضلوا ، وقال علي ، وعثمان رضي الله عنهما : لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ، وقال عمر رضي الله عنه : اتهموا الرأي على الدين فإن الرأي منا تكلف ، وظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وقال أيضا : إن قوما يفتون بآرائهم ، ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون ، وقال ابن مسعود : قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان ، وقال أيضا : إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله ، وحرمتم كثيرا مما أحله الله ، وقال ابن عباس : إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه ، وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } ، ولم يقل " بما رأيت " ، وقال : إياكم ، والمقاييس فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس ، وقال ابن عمر : ذروني من أرأيت وأرأيت .

              وكذلك أنكر التابعون القياس قال الشعبي : ما أخبروك عن أصحاب أحمد فاقبله ، وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش إن السنة لم توضع بالمقاييس . ، وقال مسروق بن الأجدع : لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها .

              والجواب من أوجه :

              الأول : أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد [ ص: 290 ] والقول بالرأي ، والسكوت عن القائلين به ، وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة ، كميراث الجد ، والإخوة ، وتعيين الإمام بالبيعة ، وجمع المصحف ، والعهد إلى عمر بالخلافة ، وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الأمة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي ، وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم ، وشجاعة علي فجاوز الأمر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد ، وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع ، ومروية عن غير ثبت ، وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله ؟ ولو تساوت في الصحة لوجب اطراح جميعها ، والرجوع إلى ما تواتر من مشاورة الصحابة واجتهادهم .

              الثاني : أنه لو صحت هذه الروايات ، وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها ، وبين المشهور من اجتهاداتهم .

              فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد أو وضع الرأي في غير محله ، والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ، ويرجع إلى محض الاستحسان ، ووضع الشرع ابتداء من غير نسج على منوال سابق ، وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال : اتخذ الناس رؤساء جهالا ، وقال : لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال ، وأحلوا الحرام . فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي ، والقياس ، والمنكرون للقياس لا يقرون بصحة شيء منه أصلا ، ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي ، والقياس كقياس أصحاب الظاهر ، إذ قالوا : الأصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك

              ولا تثبت الأصول بالظن فكذلك الفروع ، وقالوا لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية فقاسوا الشيء بما لا يشبهه . فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا ، وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين .

              الاعتراض الثالث : أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين ، وأن ذلك لو كان باطلا لأنكروه . فنقول : لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة ، والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه .

              والدليل عليه أن مسائل الأصول فيها قواطع ، وقد اختلف الأصوليون في صيغة الأمر وصيغة العموم ، والمفهوم ، واستصحاب الحال ، وأفعال النبي عليه السلام بل في أصل خبر الواحد ، وأصل القياس ، وأصل الإجماع ، وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي ، والإثبات ، ولم ينقل عن الصحابة ، والتابعين التأثيم ، والتفسيق فيها

              ، والجواب : أن حمل سكوتهم على المجاملة ، والمصالحة ، واتقاء الفتنة محال ; لأنهم اختلفوا في المسائل ، وتناظروا ، وتحاجوا ، ولم يتجاملوا ، ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ، ولم ينكر بعضهم على بعض ، ولو كان ذلك بالغا مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم ، والتفسيق كما فعلوا بالخوارج ، والروافض ، والقدرية ، وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم .

              وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال ، فإن قول القائل لغيره : لست شارعا ، ولا مأذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ، ليس كلاما خفيا تعجز على دركه الأفهام ، وكل من قاس بغير إذن فقد شرع . فلولا علمهم حقيقة بالإذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع ، واختراع الأحكام ، وأما ما ذكروه من مسائل الأصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ، ولا في خبر الواحد ، ولا في الإجماع بل أجمعوا عليه [ ص: 291 ] وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد .

              وأما العموم ، والمفهوم وصيغة الأمر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيها خوض الأصوليين ، ولكن كانوا يتمسكون في مناظراتهم بالعموم ، والصيغة ، ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للأحكام المقترنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة فما جردوا النظر في هذه المسائل ، كيف ، وقد قال بعض الفقهاء : ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد ، وأصل القياس ، والإجماع أدلة قاطعة بل هي في محل الاجتهاد ؟ فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الإشكال .

              ، وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الأصوليين ، فإن هذه أصول الأحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها ، وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفه ، وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج ، والروافض ، والقدرية .

              الاعتراض الرابع : قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن ، والاجتهاد ، فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر ، واستصحاب حال ، ومفهوم لفظ ، واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع ، واللغة في جمع بين آيتين ، وخبرين وصحة رد مقيد إلى مطلق ، وبناء عام على خاص ، وترجيح خبر على خبر ، وتقرير على حكم العقل الأصلي ، وما جاوز هذا ، فكان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه ، واستنباطه ، والحكم إذا صار معلوما بضابط فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام

              ، وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم ، وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد ، وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط ، والنسيان واجب قطعا ، وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف . فهذه أمور علقت على المصلحة نصا ، وإجماعا ، ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص ، والأحوال إلا بالاجتهاد فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم ، وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة ، واعتبارها بها كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم ، كقول ابن عباس في دية الأسنان كيف لم يعتبروا بالأصابع إذ عللوا اختلاف دية الأسنان باختلاف منافعها ، وذلك منقوض

              بالأصابع ، ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس ، وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا ، وكذلك قول علي أيضا : أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شيء مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا ، والجواب : أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع ، وأن الحكم بالظن جائز

              ، والإنصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الألفاظ ، وتحقيق مناط الأحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ، ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس ، والتشبيه ، وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس ، وتعليل النص ، وتنقيح مناط الحكم ، وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما ، فإنه قاس العهد [ ص: 292 ] على العقد بالبيعة ، وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الأب قياسا على أم الأم .

              ، وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه ، وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة ، وتصريح علي بالقياس على الافتراء في حد الشرب ، ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس ، وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ، ولا تنحصر ، ولنعين مسألتين مشهورتين نقلتا على التواتر ، وهي مسألة الجد ، والإخوة ، ومسألة الحرام .

              أما في قوله : " أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار ، وبعضهم بالطلاق ، وبعضهم باليمين ، وكل ذلك قياس ، وتشبيه في مسألة لا نص فيها ، إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ، والنزاع وقع في المنكوحة ، فكان من حقهم أن يقولوا :

              هذه لفظة لا نص فيها في النكاح فلا حكم لها ، ويبقى الحل ، والملك مستمرا كما كان ; لأن قطع الحل ، والملك أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو قياس على منصوص ، ولا نص ، والقياس باطل فلا حكم ، فلم قاسوا المنكوحة على الأمة ؟ ولم قاسوا هذا اللفظ على لفظ الطلاق ، وعلى لفظ الظهار ، وعلى لفظ اليمين ، ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها ؟ وكذلك الجد وحده عصبة بالنص ، والأخ وحده عصبة ، ولا نص عند الاجتماع فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين ، والخليجين وصرح من قدم الجد ، وقال :

              ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلى بالأب ، والجد أيضا يدلي به ، والمدلى به واحد ، والإدلاء

              مختلف ; فقاسوا الإدلاء بجهة الأبوة على الإدلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الأبوة في أحكام ، وكذلك قال زيد في مسألة زوج ، وأبوين : للأم ثلث ما بقي ، فقال ابن عباس : أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي ؟ فقال : أقول برأيي ، وتقول برأيك فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج ، إذ يكون للأب ضعف ما للأم ، فقال : نقدر كأن الباقي بعد الزوج ، والزوجة كل المال ، ونقدر كأن الزوج لم يكن .

              ، وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض ، وغيرها علم ضرورة سلوكهم طرق المقايسة ، والتشبيه ، وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص ، وغيره ورأوا جامعا .

              وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الأقوى الأغلب ، فإنا نعلم أنهم ما طلبوا المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لاتحدت المسألة ، ولم تتعدد ، فيبطل التشبيه ، والمقايسة ، وكانوا لا يكتفون بالاشتراك في أي وصف كان بل في وصف هو مناط الحكم ، وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد ، والخلاف مجال ، فكانوا يدركون ذلك بظنون ، وأمارات ، ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل .

              الاعتراض الخامس : أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال ، وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام ، فيجب إظهار مستندهم ، والتمسك به ، فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ، ووضعوه .

              ونحن نسلم وجوب الاتباع فيما سمعوه ، فإنه إذا قال عليه السلام : إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الأوصاف فاتبعوه . فإن الأمر كما ظننتموه أو حكم الظان على ما ظنه فهي علامة في حقه ، وغير علامة في حق من ظنه [ ص: 293 ] بخلافه فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به ، فإنه إذا قال : إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار ، واعلموا أني حرمت الربا في البر ، لكنا نقطع بتحريم البر ، وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار ، فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس ، ولكن من أين فهم الصحابة هذا ، وليس في الكتاب ، والسنة ما يدل عليه ؟ والجواب من وجهين :

              أحدهما : أن هذه مؤنة كفيناها ، فإنهم مهما أجمعوا على القياس فقد ثبت بالقواطع أن الأمة لا تجتمع على الخطأ ، بل لو وضعوا القياس ، واخترعوا استصوابا برأيهم ، ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الاتباع ، فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم .

              الثاني : هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر ، وعن دلالات ، وقرائن أحوال ، وتكريرات ، وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد بالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم ، لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس فلم ينقل اكتفاء بما علمته الأمة ضرورة ، وإلى ما نقل ، ولكن لم يبق في هذه الأعصار إلا نقل الآحاد ، ولم يبق على حد التواتر ، ولا يورث العلم ، وإلى ما تواتر ، ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال ، والتأويل إليه فلا يحصل العلم بآحادها ، وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ، ونقلها فلم تنقل إلينا فكفينا مؤنة البحث عن المستند لما علمناه على التواتر من إجماعهم .

              ونحن مع هذا نشيع القول في شرح مستندات الصحابة ، والألفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس ، وذلك من القرآن قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } إذ معنى الاعتبار العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى ، كما قال ابن عباس هلا اعتبروا بالأصابع وقوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ، وقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ، وليس في الكتاب مسألة الجد ، والإخوة ، ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب .

              ، وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات ، وليست مرضية ; لأنها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن ، ومن ذلك { قوله عليه السلام لمعاذ : بم تحكم قال : بكتاب الله ، وسنة نبيه قال : فإن لم تجد قال : أجتهد رأيي فقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله } .

              وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول ، ولم يظهر أحد فيه طعنا ، وإنكارا ، وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده ، وهذا كقوله : { لا وصية لوارث } و { لا تنكح المرأة على عمتها } و { لا يتوارث أهل ملتين } ، وغير ذلك مما علمت به الأمة كافة ، إلا أنه نص في أصل الاجتهاد ، ولعله في تحقيق المناط ، وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة فلا يتناول القياس إلا بعمومه ، ومن ذلك قوله لعمر حين تردد في قبلة الصائم : { أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح ؟ فقال : لا فقال : فلم إذا ؟ } فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب ، لكنه ليس بصريح إلا بقرينة إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشيء بالشيء ، فقال : إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص ; لأنه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب ، ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية : { أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان ينفعه ؟ قالت : نعم قال : فدين الله أحق بالقضاء } [ ص: 294 ] فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق ، ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا ، إذ لو كان لتعليم القياس لقيس عليه الصوم ، والصلاة .

              ومن ذلك قوله : { كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة أي : القافلة فادخروا } فبين أنه ، وإن سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة ، وقد زالت العلة فزال الحكم ، ومن ذلك قوله عليه السلام { : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقيل : نعم ، فقال : فلا إذا } . وقوله تعالى { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ، وقال لأم سلمة ، وقد سئلت عن قبلة الصائم : { ألا أخبرتيه أني أقبل ، وأنا صائم } تنبيها على قياس غيره عليه وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال :

              { إني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي } ، ودل عليه قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } ، وليس الرأي إلا تشبيها ، وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشيء ، وأشبه به ، وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالأمر ، وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالأمر ، وقال عمر يا أيها الناس إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا فإن الله تعالى كان يسدده ، وإنما هو من الظن ، والتكلف ، فلم يفرق إلا في العصمة ، ومن ذلك { أمره سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه فأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم ، وسبي نسائهم ، فقال عليه السلام : لقد وافق حكمه حكم الله } ومن ذلك قوله { : إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران } ، ومن ذلك أنه عليه السلام { شاور الصحابة في عقوبة الزنا ، والسرقة قبل نزول الحد } ، ومن ذلك قوله عليه السلام : { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها ، وباعوها ، وأكلوا أثمانها } علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها ، واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار ، وباعها .

              ومن تعليلاته بعض الأحكام كقوله : { لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا } ، وقوله في الشهداء مثل ذلك ، وقوله : { إنها من الطوافين عليكم ، والطوافات } ، وقوله { في الذي ابتاع غلاما ، واستغله ثم رده الخراج بالضمان } : فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر ، وآحادها لا تدل دلالة قاطعة ، ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في إشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية