الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه اختلفوا في شهادته وقد قال الشافعي أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ ; لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة .

              وقد قال الشافعي تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب . واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لأنه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله ففسقه مضاعف ، وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه . ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لأنه نقصان منصب يسلب الأهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة ، فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم ، وكلام الشافعي مشير إلى هذا وهو في محل الاجتهاد ، فمذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية بل يوجبان التهمة ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الأهلية ، ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان والفسق موجب للرد للتهمة ، وهذا هو الأغلب على الظن عندنا .

              فإن قيل : هذا مشكل على الشافعي من وجهين أحدهما أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الأهلية ، الثاني : أنه إن كان للتهمة فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل قلنا : أما الأول فمأخذه قوله صلى الله عليه وسلم : { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } وأما الثاني فسببه أن الظنون تختلف ، وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص وهو العدالة ، فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي كما في العقوبات وكما في رد شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر ، فإنه قد يتهم وترد شهادته [ ص: 128 ] لأن الأبوة مظنة للتهمة فلا ينظر إلى الحال ، وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك .

              ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين وعلى قبول ذلك درج التابعون لأنهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق . فإن قيل : فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك ؟ قلنا : لا ، فإنا نعلم أن عليا والأئمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج ، لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة فلعل فيهم من أضمر إنكارا لكن لم يرد على الإمام في محل الاجتهاد ، فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم ؟ وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف الفتنة ؟ فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا .

              قلنا على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق للتهمة ولم يتهموا المتأول ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية