[ ص: 378 ] كتاب الإجماع وفيه فصول . الفصل الأول : وفيه عشرة مباحث في النظر في مسماه لغة واصطلاحا ، ثم في إمكانه في نفسه ، ثم في جواز العلم به ، وجواز نقله ، ثم في كونه حجة ، ثم بماذا ثبتت حجيته ، ثم في كونه قطعيا ، ثم في استحالة الخطأ فيه ، ثم في وجوب العمل به ، ثم في استصحابه بعد ثبوته ، ثم في كونه من خصائص هذه الأمة ، فهذه عشرة مقاصد .
المبحث الأول [ في
nindex.php?page=treesubj&link=21612مسماه لغة واصطلاحا ] هو لغة يطلق بمعنيين : أحدهما : العزم على الشيء والإمضاء ، ومنه قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=71فأجمعوا أمركم } أي اعزموا ، وقوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30899لا [ ص: 379 ] صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل } ، ونقض
nindex.php?page=showalam&ids=12831ابن الفارض المعتزلي هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى ، والإجماع بمعنى العزيمة وقطع الرواية لا يتعدى بعلى .
قلت : حكى
ابن فارس في المقاييس : أجمعت على الأمر ، إجماعا وأجمعته . نعم ، تعديته بنفسه أفصح . والثاني : الاتفاق ، ومنه أجمع القوم : إذا صاروا ذوي جمع . قال
الفارسي : كما يقال : ألبن وأتمر ، إذا صار ذا لبن وتمر . وحكى
عبد الوهاب في " الملخص " عن قوم منع كونه بمعنى الإجماع كما ظنه ظانون لتغايرهما ، إذ يصح من الواحد أن يقول : أجمعت رأيي على كذا ، أي عزمت عليه ،
nindex.php?page=treesubj&link=21612_21654ولا يصح الإجماع إلا من اثنين . والصحيح هو الأول . ثم قال
الغزالي : هو مشترك بينهما . وقال
القاضي : العزم يرجع إلى الاتفاق ; لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه ، وقال
ابن برهان ،
وابن السمعاني : الأول أشبه باللغة ، والثاني : أشبه بالشرع . قالا : وتظهر فائدتهما في أن
nindex.php?page=treesubj&link=21612_21654_21655_21636الإجماع من الواحد هل يصح ؟ فعلى المعنى الأول لا يصح إلا من جماعة ، وعلى المعنى الثاني يصح الإجماع من الواحد . وأما في الاصطلاح : فهو اتفاق مجتهدي أمة
محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في
[ ص: 380 ] حادثة على أمر من الأمور في عصر من الأعصار . فخرج اتفاق العوام ، فلا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ، ويخرج أيضا اتفاق بعض المجتهدين . وبالإضافة إلى أمة
محمد خرج اتفاق الأمم السابقة ، وإن قيل بأنه حجة على رأي ، لكن الكلام في الإجماع الذي هو حجة . وقولنا : بعد وفاته ، قيد لا بد منه على رأيهم ، فإن الإجماع لا ينعقد في زمانه عليه السلام كما سنذكره . وخرج بالحادثة
nindex.php?page=treesubj&link=21612انعقاد الإجماع على الحكم الثابت بالنص والعمل به ، وقولنا : على أمر من الأمور ، يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات . وقولنا : في عصر من الأعصار ; ليرفع وهم من يتوهم أن المراد بالمجتهدين من يوجد إلى يوم القيامة . وهذا التوهم باطل ، فإنه يؤدي إلى عدم تصور الإجماع ، والمراد بالعصر منا : من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة ، وظهر الكلام فيه . فهو من أهل ذلك العصر ، ومن بلغ هذا بعد حدوثها فليس من أهل ذلك العصر .
هكذا ذكره الإمام
أبو محمد القاسم الزجاج في كتابه : البيان عن أصول الفقه " وهو من أصحاب
أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا .
[ ص: 381 ] واعلم أن أصل هذا التعريف أشار إليه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الرسالة " بقوله : وحده في موضع آخر بهذا المعنى ، فقال هم الذين لا يجوز عليهم أن يجهلوا حكم الله .
تنبيه [
العبدري يرى أن التعريف السابق غير جامع ] قال
العبدري : هكذا رسم الأصوليون الإجماع ، وفيه نظر ، فإنه لفظ مشترك ، يقال على ما هو إجماع على العمل يستند الحكم ، أي بدليله من الكتاب والسنة ، ويقال : ما هو إجماع على استنباط الحكم من الكتاب والسنة بالاجتهاد والقياس ، والذي هو إجماع على العمل بمستند الحكم ينقسم إلى إجماع نقل مستنده إلى المجتهدين ، وإلى إجماع درس مستنده فلم ينقل إليهم . فهذه ثلاثة معان متباينة ، فيحتاج إلى ثلاثة رسوم .
[ ص: 378 ] كِتَابُ الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ فُصُولٌ . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : وَفِيهِ عَشَرَةُ مَبَاحِثَ فِي النَّظَرِ فِي مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ، ثُمَّ فِي إمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ فِي جَوَازِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَجَوَازِ نَقْلِهِ ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً ، ثُمَّ بِمَاذَا ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهُ ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا ، ثُمَّ فِي اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ فِيهِ ، ثُمَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ، ثُمَّ فِي اسْتِصْحَابِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَقَاصِدَ .
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ [ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=21612مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ] هُوَ لُغَةً يُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِمْضَاءُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=71فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } أَيْ اعْزِمُوا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30899لَا [ ص: 379 ] صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } ، وَنَقَضَ
nindex.php?page=showalam&ids=12831ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ هَذَا بِأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ يَتَعَدَّى بِعَلَى ، وَالْإِجْمَاعُ بِمَعْنَى الْعَزِيمَةِ وَقَطْعِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَدَّى بِعَلَى .
قُلْت : حَكَى
ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمَقَايِيسِ : أَجْمَعْت عَلَى الْأَمْرِ ، إجْمَاعًا وَأَجْمَعْته . نَعَمْ ، تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْصَحُ . وَالثَّانِي : الِاتِّفَاقُ ، وَمِنْهُ أَجْمَعَ الْقَوْمُ : إذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ . قَالَ
الْفَارِسِيُّ : كَمَا يُقَالُ : أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ ، إذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ . وَحَكَى
عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " عَنْ قَوْمٍ مَنْعَ كَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ كَمَا ظَنَّهُ ظَانُّونَ لِتَغَايُرِهِمَا ، إذْ يَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ أَنْ يَقُولَ : أَجْمَعْت رَأْيِي عَلَى كَذَا ، أَيْ عَزَمْت عَلَيْهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21612_21654وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ . وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ . ثُمَّ قَالَ
الْغَزَالِيُّ : هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ
الْقَاضِي : الْعَزْمُ يَرْجِعُ إلَى الِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ مَنْ اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ
ابْنُ بَرْهَانٍ ،
وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ : الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ ، وَالثَّانِي : أَشْبَهُ بِالشَّرْعِ . قَالَا : وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21612_21654_21655_21636الْإِجْمَاعَ مِنْ الْوَاحِدِ هَلْ يَصِحُّ ؟ فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْوَاحِدِ . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ : فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي
[ ص: 380 ] حَادِثَةٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ . فَخَرَجَ اتِّفَاقُ الْعَوَامّ ، فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِمْ وَلَا خِلَافِهِمْ ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ . وَبِالْإِضَافَةِ إلَى أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى رَأْيٍ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ . وَقَوْلُنَا : بَعْدَ وَفَاتِهِ ، قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى رَأْيِهِمْ ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَخَرَجَ بِالْحَادِثَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=21612انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَقَوْلُنَا : عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ، يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ وَاللُّغَوِيَّاتِ . وَقَوْلُنَا : فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ; لِيَرْفَعَ وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ مَنْ يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاطِلٌ ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ مِنَّا : مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَظَهَرَ الْكَلَامُ فِيهِ . فَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ ، وَمَنْ بَلَغَ هَذَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِهِ : الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ " وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا .
[ ص: 381 ] وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّعْرِيفِ أَشَارَ إلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " بِقَوْلِهِ : وَحَدُّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْهَلُوا حُكْمَ اللَّهِ .
تَنْبِيهٌ [
الْعَبْدَرِيُّ يَرَى أَنَّ التَّعْرِيفَ السَّابِقَ غَيْرُ جَامِعٍ ] قَالَ
الْعَبْدَرِيّ : هَكَذَا رَسَمَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِجْمَاعَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ ، يُقَالُ عَلَى مَا هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ ، أَيْ بِدَلِيلِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَيُقَالُ : مَا هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَاَلَّذِي هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمُسْتَنَدِ الْحُكْمِ يَنْقَسِمُ إلَى إجْمَاعٍ نُقِلَ مُسْتَنَدُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ ، وَإِلَى إجْمَاعٍ دَرَسَ مُسْتَنَدُهُ فَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْهِمْ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ ، فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ رُسُومٍ .