[ ص: 478 ] لا يشترط انقراض عصر المجمعين ] الأمر الأول : لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين وموت الجميع  على الصحيح عند المحققين ، بل يكون اتفاقهم حجة في الحال ، وإن لم ينقرضوا ، فإن رجع أحدهم لا يقبل رجوعه ، بل يكون قوله الأول مع قول الآخرين حجة عليه كما هو حجة على غيره ، وكذا لو نشأ في العصر مخالف قبل انقراض أهله كما قاله الإمام  في النهاية " في مسألة  ابن عباس  رضي الله عنهما ، وحجبه الأم بثلاثة إخوة ; لأن المقتضي قد وجد ، وهو صورة الإجماع ولا مانع فيلزم الحكم . قال القاضي  في التقريب " : وهو قول الجمهور ، وقال الباجي    : هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين . وقال عبد الوهاب    : إنه الصحيح ، وقال  الأستاذ أبو منصور    : وهو قول القلانسي  من أصحابنا مع المعتزلة  وأصحاب الرأي . وقال ابن برهان    : هو القول المنصور عندنا .  [ ص: 479 ] وقال ابن السمعاني    : إنه أصح المذاهب لأصحاب  الشافعي  ، وقال الرافعي  في الأقضية : إنه أصح الوجهين . وقال الإمام  في النهاية " . في باب نواقض الوضوء : إنه المختار ، وجرى عليه الدبوسي  في التقويم " ، وقال  أبو سفيان    : إنه قول أصحاب  أبي حنيفة  ، وقال  أبو بكر الرازي    : إنه الصحيح ، وحكاه عن  الكرخي    . 
والمذهب الثاني : يشترط ، وهو مذهب  أحمد  ، ونصره محققو أصحابه ، واختاره  ابن فورك  ، وسليم  ، ونقله ابن برهان  من أصحابنا عن المعتزلة    . ونقله صاحب المعتمد " عن الجبائي  ونقله  الأستاذ أبو منصور  عن  الشيخ أبي الحسن الأشعري    . واختلفوا في علته على وجهين . أحدهما : أن فائدة اشتراطه إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم . والثاني : جواز وجود مجتهد آخر ، وينبني على العلتين ، ما لو وجد مجتهد قبل انقراضهم ، يعتبر وفاقه . 
قال القاضي  في التقريب " : والمشترطون افترقوا فرقتين ، فمنهم من اشترط انقراض جميع أهله ، ومنهم من اشترط انقراض أكثرهم ، فإن بقي واحد أو اثنان ونحوه مما لا يقع العلم بصدق خبره لم يعتد ببقائه . ومنهم من اعتبر موت العلماء فقط . حكاه عبد الوهاب  ، وكأنه بناه على دخول العامة في الإجماع . وقال الغزالي  في المنخول " : اختلف المشترطون ، فقيل : يكتفى  [ ص: 480 ] بموتهم تحت هدم دفعة ، إذ الغرض انتهاء عمرهم عليه ، وقال المحققون : لا بد من انقضاء مدة تفيد فائدة ، فإنهم قد يجمعون على رأي ، وهو معرض للتغيير . وقد روي عن  ابن عباس    - رضي الله عنهما - أنه أبدى الخلاف في مسائل بعد اتفاق الصحابة . وقال صاحب الكبريت الأحمر " : القائلون بالاشتراط اختلفوا ، فقيل : هو شرط في انعقاد الإجماع ، وقيل : شرط في كونه حجة ، وإذا قلنا : إن الانقراض شرط ، فعلام يعتبر ؟ فيه وجهان . ذكره  أبو علي الطبري    : أحدها : أنه يعتبر فيما بني أمره على المسامحة ، فيتساهل الأمر فيه . فأما ما يتعلق بالإتلاف : من قتل ، أو قطع ، أو ما أشبهه ، لم يعتبر فيه انقراض العصر . 
والثاني : أنه يعتبر في جميع الأشياء حكاه بعض شراح اللمع " . ثم قال إلكيا    : مقتضى اشتراط انقراض العصر أن لا يستقر الإجماع ما بقي من الصحابة واحد ، ولو لحقهم زمرة من المجتهدين قبل أن [ ينقرضوا ] فلا شك أنهم صاروا معتبرين فيما بينهم وصار خلافهم معتبرا ، ومع هذا أجمعوا على أنه لا يشترط انقراض عصر اللاحقين ، فإنا لو اعتبرنا ذلك لم يستقر الإجماع ، ومعلوم أن اللاحق صار كالسابق في اعتبار قوله ، وإذا كان اعتبار قوله يمنع من استقرار الإجماع فينبغي عدم اشتراطه ; لأن المخالف لو خالف قبل انقراض عصر الأولين اعتبر خلافهم ، فإذا مات الأولون بعد تحقق انقراض العصر ، فينبغي أن تصير المسألة إجماعية . والمذهب الثالث : إن كان سكوتيا اشترط لضعفه ، بخلاف القولي ،  [ ص: 481 ] وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني  ،  وأبي منصور البغدادي  ، فقال أبو منصور  في كتاب التحصيل " : إنه قول الحذاق من أصحاب  الشافعي  ، وقال  القاضي أبو الطيب    : إنه قول أكثر الأصحاب ، واختاره البندنيجي  أيضا . 
وقال  القاضي الحسين  في باب الكفارة من تعليقه " : إنه ظاهر المذهب ، وجعل سليم  محل الخلاف في القولي قال : وأما السكوتي فانقراض العصر معتبر فيه بلا خلاف ، وحاصله اختيار هذا المذهب ، وممن اختاره من المتأخرين الآمدي    . واعلم أن ما نقلته عن الأستاذ أبي إسحاق  تابعت فيه إمام الحرمين  ، لكن الذي في تعليقة الأستاذ  عدم الاشتراط فيهما جميعا . والمذهب الرابع : التفصيل بين أن يستند إلى قاطع فلا يشترط فيه تمادي زمان ، وينتهض حجة على الفور ، وبين أن يستند إلى ظني ، فليس بحجة ، حتى يطول الزمان ، وتتكرر الواقعة ، ولو طال الزمان ، ولم يتكرر ، فلا أثر له ، وهذا قول إمام الحرمين  في البرهان " ، ومستنده أن المسألة لما استندت إلى ظني ، وطالت المدة ، وتكررت الواقعة ، ولم يعرض لأحد خلاف . التحق بالمقطوع ، وصرج بأنهم لو هلكوا عقب الإجماع فليس بإجماع . وظهر بهذا أن الانقراض عنده غير شرط ولا معتبر في حالة من الأحوال ، وبذلك يعرف وهم  ابن الحاجب  في نقله عنه التفصيل بين الصادر عن قياس ، فيشترط فيه الانقراض ، وإلا فلا . 
وليس كما قال ، بل كلامه مصرح بعدم اعتبار الانقراض ألبتة ، ومع ذلك فما قاله في الظني  [ ص: 482 ] حكم عليه بتقدير وقوعه ، ويرى أنه غير متصور الوقوع [ و ] اشتراطه طول الزمان في الظني ، إنما هو ليصل إلى القطع ، لا أنه متصور في نفسه . ثم أشار إلى ضابط قدر الزمان بما لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأي إلا عن حامل قاطع ، أو نازل منزلة القاطع على الإصرار ، واختاره في المنخول " ، وقال : الرجوع في مقداره إلى العرف ، ورده في القواطع " بأنه لا يعرف إلى أي شيء استناد المجمعين ، ولو عرف استنادهم إلى المقطوع كان هو الحجة دون الإجماع . وقال إلكيا    : قال الإمام    : إن قطع أهل الإجماع في مظنة الظن ، فلا يعتبروا انقراضه ، فإن ذلك لا يصدر إلا عن توقيف وتقدير يقتضيه خرق العادة ، والعادة لا تخرق لا في لحظة ولا في أمد طويل . 
قال : وهذا الذي ذكر الإمام  لا يختص بالإجماع ، فإن المجتهد لو قطع في مظنة الظن كان كذلك ، ولا فائدة له كبيرة هنا . قال : وإن كان الإجماع في الحكم مع الاعتراف باستناده إلى اجتهاده فما داموا في مهلة البحث فلا مذهب لهم ، فضلا عن أن يكون إجماعا ، وإن جزموا الحكم بناء على أحد النظرين ، فهذا مما يبعد الإمام  ، ويرى أن الرأي الذي أجمع عليه أهل التواتر مستند للقاطع . 
وقد بينا من قبل تصوره ، وحينئذ فالمعتبر ظهور إصرارهم ، والإصرار قد يتبين بالقرائن ، إما في المجلس أو بعده . والمذهب الخامس : ينعقد قبل الانفراض فيما لا مهلة فيه ، ولا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج . حكاه ابن السمعاني  عن بعض أصحابنا ، وهو نظير ما سبق في السكوتي . والمذهب السادس : أنه إذا لم يبق من المجمعين إلا عدد ينقصون عن  [ ص: 483 ] أقل عدد التواتر ، فلا عبرة ببقائهم : وعلم انعقاد الإجماع . حكاه القاضي  في مختصر التقريب " ، وأشار إليه ابن برهان  في ، الوجيز " ، والمذهب السابع : إن شرطوا في إجماعهم أنه غير مستقر ، وجوزوا الخلاف ، اعتبر انقراض العصر . وإن لم يشترطوا ذلك ، لم يعتبر . حكاه القاضي  في مختصر التقريب " ، وسليم الرازي  ، ثم قيده بالمسائل الاجتهادية ، دون مسائل الأصول التي يقطع فيها بخطأ المخالف . والمذهب الثامن : إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك ، اشترط قطعا ، وإن تعلق بها ذلك مما لا يمكن استدراكه كإراقة الدماء ، واستباحة الفروج ، فوجهان ، وهو طريقة الماوردي  في الحاوي " . 
قال سليم    : وفائدة الخلاف في هذه المسألة ، أن من اعتبر انقراض العصر جوز أن يجمعوا على حكم ، ثم يرجعوا عنه ، أو بعضهم ، ومن لم يعتبر لم يجوز ذلك . تنبيهات الأول : [ المراد بانقراض العصر    ] قال ابن برهان    : ليس المراد بالانقراض مدة معلومة ، بل موت المجمعين المجتهدين . فالعصر في لسانهم المراد به علماء العصر ، والانقراض عبارة عن موتهم وهلاكهم ، حتى لو قدر موتهم في لحظة واحدة في سفينة ، فإنه يقال : انقراض العصر . الثاني : صور الطبري  المسألة بإجماع الصحابة ، وظاهره أن إجماع  [ ص: 484 ] التابعين لا خلاف في عدم اشتراط انقراضهم ، وبه صرح بعد ، وكلام غيره ظاهر في التعميم . ومن المشترطين من أحال عدم بلوغ الأمة في عصر حد التواتر ، حكاه القاضي عبد الوهاب  ، وحينئذ فيخرج في المسألة مذهب ثامن . الثالث : أن المشترطين قالوا : يحتج به ، وإن كان انقراض العصر شرطا ، كما يجب علينا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ، وإن جاز تبديله بنسخ ، وذلك لأن الأصل عدم رجوعهم ، ثم إذا رجعوا فغايته أنهم اتفقوا على خطأ لم يقروا عليه . 
[ لا يشترط في المجمعين بلوغهم حد التواتر    ] الأمر الثاني : لا يشترط في المجمعين بلوغهم حد التواتر ، خلافا للقاضي  ، بل يجوز انحطاطهم عنه عقلا ، ونقل ابن برهان  عن معظم العلماء وعن طوائف من المتكلمين  ، أنه لا يجوز عقلا . وإذا جوزنا ، فهل ينعقد الإجماع به ؟ فذهب معظم العلماء إلى أنه يكون حجة ، كما قاله ابن برهان  ، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق  ، وقال إمام الحرمين    : يجوز ، ولكن لا يكون إجماعهم حجة ، فإن مأخذ الخلاف  [ ص: 485 ] مستند إلى طرد العادة ، ومن لم يحسن استناد الإجماع إليه ، لم يستقر له قدم فيه ، ومأخذ الخلاف راجع إلى أن الإجماع من دلالة العادة أو السمع ، فمن أخذه من دلالة العقل ، واستحالة الخطأ بحكم العادة شرط التواتر ، ومن أخذه من الأدلة السمعية اختلفوا ، فمنهم من شرطه ، ومنهم من نفاه . وهو الصحيح ; لأن صورة الإجماع المشهود بعصمته عن الخطأ قد وجبت ، فيترتب عليها حكمها . وقال الهندي    : المشترطون اختلفوا ، فقيل : إنه لا يتصور أن ينقص عدد المسلمين عن عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا . 
ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور ، لكن يقطع بأن من ذهب إليه دون عدد التواتر سبيل المؤمنين ; لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع ، فلا يحرم مخالفته . ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن ، لا يشترط فيه ذلك ، بل يكفي فيه الظهور . لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع ، وهو يوجب كونه متواترا ، وإلا لم يكن قاطعا ، فما يقوم مقامه نقله متواترا ، وهو الحكم بمقتضاه ، يجب أن يكون صادرا عن عدد التواتر ، وإلا لم يقطع بوجوده . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					