وحده الفقهاء بأنه الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده  ، وألزموا عليه كون النسخ من باب التخصيص ، فيصح أن ينسخ بما به يخصص ، فينسخ بدليل العقل ، وبالإجماع ، وهو لا يجوز . وإلى كونه بيانا ذهب الأستاذ أبو إسحاق  ،  والقاضي أبو الطيب  ، وسليم  ، وإمام الحرمين  ، والإمام فخر الدين  ، وغيرهم . وحكاه في " المعالم " عن أكثر العلماء . واختاره القرافي    . وهؤلاء يجعلون النسخ تخصيصا وبيانا ، أي أن الخطاب الثاني بين أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مرادا من الخطاب الأول كما أن التخصيص . في الأعيان كذلك . 
وأوردوا على من حده بالرفع بأن الرافع الحادث إن وجد حال وجود الأول لم ينافه ، وإن وجد حال عدمه لم يعدمه ، لامتناع إعدام المعدوم . وأجيب بأن الرفع كالكسر والارتفاع كالانكسار ، ولذلك يجعلون  [ ص: 200 ] الرفع كفسخ العقود . 
وقالوا أيضا : إنما عدلنا إلى البيان احترازا عن تعارض الرافع والدافع ، والرفع ليس أولى من الدفع ، وهذا منهم بناء على أن الرفع والدفع من مقتضى اللفظ وليس كذلك ، بل الألفاظ دلائل على إرادة الشارع ، والشارع له المحو والإثبات . 
واحتج القائلون بالثاني أيضا بأن علم الله إما أن يتعلق بدوام الحكم أبدا أو إلى وقت معين . وعلى كلا التقديرين فلا يمكن الرفع . أما إذا تعلق بالدوام فلأنه يستحيل رفعه ، لاستحالة وقوع خلاف معلومه . وأما على التقدير الثاني وهو أن يعلم انتهاؤه إلى الوقت ، وإذا كان الانتهاء واجبا في ذلك لم يحصل الرفع الثاني لأنه قد وجب ارتفاعه . 
وأجيب بأنا لا نسلم أنه إذا تعلق العلم بالانتهاء في ذلك الوقت يمتنع الرفع ، لجواز أن يكون العلم تعلق بالانتهاء في ذلك الوقت بالحادث ، فإن العلم يتعلق على ما هو به . 
وتحرير هذا الخلاف أنهم اتفقوا على أن الحكم السابق له انعدام . وتحقق انعدامه ، لانعدام متعلقه ، لا لانعدام ذات الحكم . واتفقوا على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد وأن يكون منافيا للأول ، وأن عنده يتحقق عدم الأول . ثم اختلفوا في عدم الأول هل هو مضاف إلى وجود الحكم المتأخر ؟  فيقال : إنما ارتفع الأول لوجود المتأخر اللاحق ، أو لا يضاف إليه بل يقال : الحكم الأول انتهى ، لأنه كان في نفس الأمر مغيا إلى غاية معلومة لله ، وقد علمناها بالحكم اللاحق المتأخر ، فإذن النزاع في استناد عدم السابق إلى وجود  [ ص: 201 ] اللاحق ، فالأستاذ يقول : الحكم في نفس الأمر لم يكن له صلاحية الدوام ، لكونه مغيا إلى غاية معلومة معينة لا نعرفها إلا بعد ورود الناسخ ، فيكون النسخ بيانا ، وبهذا يندفع وهم من قال : إن النزاع لفظي . 
وقدر ابن المنير  كونه لفظا بأن الفقهاء يثبتون رفعا مع البيان ، والأصوليون يثبتون بيانا مع الرفع ، وذلك لأن الفقهاء لا ينازعون في أن الحكم المنسوخ كان قبل النسخ ثابتا وهو بعد النسخ غير ثابت . وإنما أنكروا رفعا يناقض الإثبات ويجامعه . والأصوليون لا ينازعون في أن المكلفين كانوا على ظن بأن الحكم لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم النسخ ، ثم بالنسخ تبين لهم أن الله تعالى أراد من الأول نسخه في الزمان المخصوص ، لأن الإرادة قديمة لا بد منها اتفاقا فلا يبقى للخلاف محط . وقول  ابن الحاجب    : إن انتهاء غاية الحكم ينافي بقاءه ، ولا نعني بالرفع إلا ذلك مردود ، فإن هذا ليس برافع . 
ومنهم من جعل الخلاف هنا مبنيا على اختلاف المتكلمين  في أن زوال الأعراض بالذات أو بالضد . فمن قال ببقائها قال : إنما ينعدم الضد المتقدم لطريان الطارئ ، ولولاه لبقي ، ومن لم يقل ببقائها قال : إنه ينعدم بنفسه ثم يحدث الضد الطارئ وليس له تأثير في إعدام الضد الأول . وقال إلكيا    : زعم القاضي  أن النسخ رفع ، وإنما يستقيم إذا جعلنا النص الأول موجبا حقيقة تاما ، والموجب هو الله تعالى ، والوجوب باقتضائه ، فقد تبين انتهاء الأول في علم الله بالنسخ بأمر يخالف الأمر الأول ، ويستحيل تقدير وضع أمرين متناقضين في زمان واحد . 
واختار الإمام  أن النسخ ظهور ما ينافي اشتراط استمرار الحكم  [ ص: 202 ] بقوله : افعل من حيث اللفظ للطلب ، ولكنه مشروط بأن لا ينهى عنه . ويصح منه أن يقول : افعل إن لم أنهك عنه . وقال : اخترت على هذا الرأي النسخ قبل مضي إمكان الفعل ، وعلى ما ذكره الأولون لا يجوز ، فإنه لا ثبوت قبل الإمكان . فقيل : للإمام  ، فهذا من قبيل الاستثناء ؟ فقال : الاستثناء هو المقرون باللفظ ، والنسخ متراخ . وهو على هذا القول يرى ظهور المنافي بالإضافة إلى اعتقادنا التأبيد فيه ، وعلى رأي الفقهاء : النسخ لا يصادف الأمر ، بل يصادف استمراره ، وعلى رأي الآخرين لا يصادف لا البقاء ولا الأمر ، ولكن يبقى الحكم في الاستقبال . وهو إنما يصادف ما اعتقدناه فيه ، فيرفع اعتقادنا ، والبقاء ظاهر في اعتقادنا ، وهو في حق الله انتهاء . فعلى هذا الناسخ لا يضاد الأمر الأول ، ولا تتصور المضادة في إمضاء حكم الله تعالى إلا بطريق البداء ، وهو غير جائز عليه . 
وحدته المعتزلة  بالخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل  ، وذكروا مثلا ليحترزوا به عن الرفع ، وجوزوا نسخ العبادة قبل التمكن من فعلها    . 
وقال العبادي  من أصحابنا في كتاب " الزيادات " : اختلف في النسخ فقيل : إزالة فرض العمل في المستقبل . وقيل : بيان انتهاء مدة العبادة . وقيل : انتهاء مدة التكليف على ضرب من التراخي بدليل لولاه  [ ص: 203 ] لوجب استرساله على عدم العموم . وقيل : قطع حكم توهم دوامه . قيل : وهذا أصل العبارات على أصل  الشافعي  ، لأنه يتناول ما قبل العمل وبعده . ا هـ . 
والحد الثاني حكاه إمام الحرمين  عن  القاضي أبي الطيب  ، وضعفه بأن النسخ يجري في غير العبادات . وقال  الشافعي  في " الأم " : الناسخ من القرآن الأمر نزله الله بعد الأمر بخلافه ، كما حولت القبلة . وقال في " الرسالة " : وهكذا كل ما نسخه الله تعالى ، وهي نسخه ترك فرضه ، وكان حقا في وقته ، وتركه حق إذا نسخه ، فيكون من أدرك فرضه مطيعا باتباع الفرض الناسخ له . 
قال ابن القطان    : وجملة الكلام في النسخ عندنا هو أن يأمر بأمر على الإطلاق في جميع الأزمنة ، ويريد منه بعضها ولا يكشف ذلك . ثم يأمر بأمر ثان ، فيعلم أنه أراد به بعض الأزمنة . قال : ولا فرق بين النسخ والتخصيص على هذا ، إلا في خصلة واحدة ، وهي أن التخصيص قد يجوز أن يكون مقترنا مع الأمر ، ولا يجوز ذلك في النسخ . انتهى . والحق أن النسخ للحكم كالفسخ للعقد ، كالكسر للصحيح ، والخلاف في أن الفسخ رفع للعقد من أصله أو من حينه لا يجيء هنا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					