الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ تحريم واحد لا بعينه ] يجوز أن يحرم واحد لا بعينه من أشياء معينة ، ومنهم من منع [ ص: 359 ] ذلك ، وقال : لم ترد به اللغة ، وأولوا قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } على جعل " أو " بمعنى الواو ، ومنهم من منع ذلك من جهة العقل ; لأنه إذا قبح أحدهما قبح الآخر فيلزم اجتنابه ، وهذان القولان حكاهما القاضي في " التقريب " وابن القشيري في " أصول " عن بعض المعتزلة ، وحكى المازري الأول في " شرح البرهان " محتجا أن النهي في الآية عن طاعتهما جميعا . قال : وهذا ليس بشيء ، ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعتهما جميعا لم تحمل الآية على ذلك ، والمشهور جوازه ووقوعه .

                                                      وعلى هذا فاختلفوا ، فعندنا أنه لا يقتضي تحريم الكل بل المحرم واحد لا بعينه ، ويجوز له فعل أحدهما ، وإنما يقتضي النهي عن الجمع بينهما كما في جانب الإيجاب ، كذا قاله القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، وابن برهان ، وابن السمعاني في " القواطع " ونقله ابن برهان عن الفقهاء والمتكلمين . وقال المعتزلة : الكل حرام ، كقولهم في جانب الإيجاب : الكل واجب لكنهم لم يوجبوا الجمع هناك ، وهنا أوجبوا اجتناب الكل ، فيبقى النزاع هنا معنويا بخلاف ما قالوه . وتوقف فيه الهندي ، إذ لا يظهر بينهما فرق . قال : والقياس التسوية بين الوجوب والتحريم ; لأن الوجوب كما يتبع الحسن الخاص عندهم . فكذا التحريم يتبع القبح الخاص ، فإن وجب الكف عن الجميع بناء على استوائهما في المعنى الذي يوجب التحريم ، فليجب فعل الجميع في صورة الوجوب بناء على استوائهما في المعنى الذي يقتضي الإيجاب . [ ص: 360 ] قلت : مأخذ الخلاف هنا : أن المعتزلة جعلوا متعلق التحريم القدر المشترك ، ونحن نخالفهم ، ونقول : متعلق أحد الخصوصيين ، وإن شئت قلت : إحدى الحصتين المعينتين لا بعينها ، وأما القرافي من المتأخرين فإنه فرق بين الأمر المخير بين واحد من الأشياء ، والنهي المخير ، فإن الأمر متعلق بمفهوم أحدها والخصوصيات متعلق التخيير ، ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب الخصوصيات كما مضى .

                                                      وأما النهي فإنه إذا تعلق بالمشترك لزم منه تحريم الخصوصيات ; لأنه لو دخل منه فرد إلى الوجود لدخل في ضمنه المشترك المحرم ، ووقع المحذور ، كما إذا حرم الخنزير يلزم تحريم السمين منه والهزيل والطويل والقصير ، وتحريم الجمع بين الأختين ونحوه إنما لاقى في المجموع عينا لا المشترك بين الأفراد ، فالمطلوب منه أن لا يدخل ماهية المجموع في الوجود ، والماهية تنعدم بانعدام جزء منها ، وأي أخت تركها خرج عن عهدة المجموع فليس كالأمر .

                                                      وقال الشيخ علاء الدين الباجي من المتأخرين : الحق نفي التحريم المخير ; لأن المحرم في الأختين الجمع بينهما كما نطق به القرآن لا إحداهما ، ولا كل واحد منهما بخلاف الواجب المخير ، فإن الواجب إما أحدها أو كل منهما على التخيير ، وفي كلام البيضاوي إشارة إليه . وما ذكره القرافي مأخذه من قوله : إن النهي عن نوع يستلزم النهي عن كل أفراده ، إذ في كل فرد النهي ، مثل " لا تزن " فلا شيء من الزنى بحلال ، [ ص: 361 ] وإلا لصدق أنه زنى .

                                                      والأمر على هذا الوجه ، غير أن قوما يتلقون ذلك من كون النكرة في سياق النفي للعموم ، وآخرون يتلقونه من أن النهي عن الكل يستلزم بعض أفراده وقال صاحب " الواضح " من المعتزلة : النهي عن أشياء على التخيير إن كان على سبيل الجمع كقوله : لا تفعل كذا وكذا فإن أمكنه الخلو منها كلها كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فهو منهي عن الجميع ، وإلا لم يحسن النهي عن كلها كقوله : لا تفعل في يدك حركة ولا سكونا . وقال إلكيا الهراسي : الذي يقتضيه رأي أصحابنا في النهي عن أشياء على التخيير أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه ، ولا يصح أن يكون الأضداد بجملتها قبيحة ، ولا ينفك الإنسان عن واحد منها ، فلا يحسن أن ينهى عنها بأجمع ، فإذا نهى عن ضدين قد ينفك عنهما إلى ثالث صح ، ويصح منه فعلها جميعا ; لأن أي واحد منها فعله كان قبيحا ، والنهي عنهما مع تضادهما عن الجمع لا يحسن ; لأن الجمع بينهما ليس في المقدور ، وما لا يقدر عليه لا يكلف به ، ومتى ما أمر بشيئين ضدين كان له فعل كل واحد منهما . وهذا يبين صحة ما قدمناه من أنه إذا لزم المكلف أن يفعل أحد الضدين كانا واجبين على التخيير ، فإذا نهي عن أحدهما لا يصح إلا أن يكون محل النهي ، فأما النهي عن شيئين مختلفين يصح الجمع بينهما على التخيير ، فلا يصح ، ويفارق الأمر في ذلك . وقال في موضع آخر : مما يفارق الأمر النهي : أنه إذا نهي عن أشياء بلفظ التخيير لم يجز له فعل واحد منهما ، ولفظ التخيير فيه كقوله تعالى { ولا تطع منهم } الآية .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية