مسألة [ لا حاكم إلا الشرع    ] إذا تبين أن الحكم خطاب الشرع فلا حاكم على المكلفين إلا الشرع خلافا للمعتزلة    . حيث حكموا العقل ، وقد اختلفت العبارات عن حكاية مذهبهم . [ مذهب المعتزلة    ] فقال إلكيا الطبري    : قالت المعتزلة    : العقل يوجب ، ولا يعنون هاهنا إيجاب العلة معلولها ، أو أن العقل يأمر ، فإن الاقتضاء منه غير معقول ، وهو عرض والأمر يستدعي الرتبة فإذن المعني به : أن العقل يعلم وجوب بعض الأفعال عليه ، والمعني بوجوبه علمه باقتران ضرر بتركه ، وإليه يرجع معنى الوجوب والحسن والقبح . وهذا منهم ادعاء العلم ضرورة على وجه يشترك العقلاء فيه  [ ص: 176 ] ثم قال : وقد مال إلى ما ذكروه طوائف من القائلين بقدم العالم من حيث إن الذي يتعلق به نظام المعيشة وعمارة الدنيا هو أقرب إلى الاعتدال ، وحسن النظام من الذي يتضمن خراب الدنيا ، وهذا المذهب لا شك في بطلانه قطعا . وقال في موضع آخر : العقل يستقل بوجوب اتباع الرسل من حيث إن الاتباع تمحض نفعا لا يشوبه ضرر ، والامتناع من الاتباع محض ضرر . ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن يعلم أن الله تعالى أظهر المعجزة على يده ليصدقه . وهذا العلم يحصل عند المعتزلة  من جهة أن الله لا يفعل القبيح ، وعند الأشعرية  من جهة أنه لو لم يقدر ذلك لم تكن معرفة الصدق من جائزات العقل ، وذلك محال . 
والذي يعلم بالشرع أنه مصلحة ونفع محض على ثلاثة أضرب : حكم ، وما يتعلق الحكم به من علة وتسبب ، والأدلة على علة الحكم . وقال ابن برهان    : اعلم أن المعتزلة  وإن أطلقوا أقوالهم بأن العقل يحسن ويقبح لم يريدوا به أنه يوجب الحسن والقبح ، فإن العقل عبارة عن بعض العلوم الضرورية ، والعلم لا يوجب المعلوم إيجاب العلة المعلول ، وإنما عنوا به أن العقل يكشف عن حسن الحسن وقبح القبيح . فعند ذلك انقسموا ، فمنهم من ذهب إلى أن الحسن حسن لذاته وكذا القبيح ، ومنهم من صار إلى أن قبح الصفة . وكذلك أصحابنا قالوا : إن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه ، وما عنوا به الإيجاب ، وإنما عنوا به أن الحسن هو المقول فيه : " لا تفعل " . 
وقال في موضع آخر : عندنا لا حكم للعقل لكن نحن نقول : إن الأدلة العقلية حقائق ثابتة في أنفسها دالة على مدلولاتها ، ومقتضية أحكامها إلا  [ ص: 177 ] أنا لا نعتقد ذلك ، والمعتزلة  يعتقدون أن للعقل أحكاما . وهذا الخلاف بيننا وبينهم ، وأنكره بعض الناس ، وقال : النظر في الأدلة العقلية لا يوجب العلم بحال ، وقال  الأستاذ أبو منصور البغدادي    : ذهبت المعتزلة  والبراهمة  إلى أن العقول طريق إلى معرفة الحسن ، والقبيح والواجب ، والمحظور ، ثم اختلفوا في وجه تعليق الحكم على العقل    . فقالت المعتزلة    : هو خاطر من قبل الله يدعوه إلى النظر والاستدلال . وشرع الرسل ما قبح في العقل كذبح البهائم وتسخير الحيوان وإتلافه . قالوا : وإنما حسن ورود الشرع به للغرض المقصود منه ، وخالفهم  أبو هاشم  ، وزعم أنه لولا ورود الشرع بذلك لم يكن معلوما جواز حسنه . 
ثم اختلفوا في صفة الخاطر ، فقال  النظام    : هو جسم محسوس وأن الله تعالى يفعل خاطرا لطاعة ، وخاطرا لمعصية في قلب العاقل فيدعوه بأحد الخاطرين إلى طاعته ; ليفعلها ، ويدعوه بالآخر ليتركها ، وقال الجبائي    : يدخل الشيطان في خرق أذن الإنسان إلى موضع سنه أو قلبه فيهمس ويتكلم بما يدعو إليه . قال : فالخاطر الذي من قبل الله كالعلم ونحوه  [ ص: 178 ] وقال ابنه  أبو هاشم    : هو قول خفي يلقيه الله في قلبه كالأمر بالمعروف ، وكذلك الخاطر الذي يلقيه الشيطان في قلب العاقل ، ولا معنى للاشتغال بهذه الترهات . قال : وذهب أهل الحق إلى أن طريق العلم بوجوب النظر في العقليات والسمعيات ، السمع دون العقل ، وإنما يعلم بالعقل صحة ما يصح كونه ، ووجوب وجود ما يجب وجوده ، واستحالة كون ما يستحيل كونه ، وصحة ما يصح ورود الشرع به جوازا بكل ما ورد الشرع به من واجب ومحظور ، ومباح ومكروه ومسنون . فقد كان في العقل جواز ورود الشرع على الوجه الذي ورد به ، وكان فيه أيضا جواز ورود الشرع بتحريم ما أوجبه وإيجاب ما حرمه ، ولم يكن فيه دلالة على وجوب فعل ، ولا على تحريمه قبل ورود الشرع ، وقالوا أيضا : لو توهمنا خلق العاقل قبل ورود السمع عليه ، واستدل ذلك العاقل على معرفة الله ، ووصل إليها لم يستحق بذلك ثوابا ، ولو جحده به وكونه لم يستحق عقابا ، ولو عذبه الله أبدا في النار لكان عدلا . وإنما كان كإيلام الطفل في الدنيا ، والعقاب لا يستحقه إلا من تعلق به الأمر والنهي خطابا أو بواسطة الرسالة ثم عصاه . 
هذا قول شيخنا أبي الحسن الأشعري  ، وبه قال أكثر الأئمة  كمالك  ،  والشافعي  ، والأوزاعي  ،  والثوري  ،  وأحمد  ، وإسحاق  ،  [ ص: 179 ]  وأبي ثور  ، وكل من لم يتمعزل من أصحاب الرأي ، وقال في كتاب " التحصيل " : إنه مذهب الجمهور من أصحاب  الشافعي   ومالك  وأصحاب الحديث ، وقال  الشيخ أبو حامد الإسفراييني  في تعليقه " : مذهب أصحاب الحديث عامة : إنه لا تجب معرفة الله قبل السمع ، وذهبت المعتزلة  إلى أنه يجب عليه ذلك قبل ورود السمع ، وقبل ورود الدعوة ، وإلا فهو مرتد كافر . ولهذا قلنا : إن من قتل ممن تبلغه الدعوة فعليه الدية ، وعند  أبي حنيفة  لا دية عليه ; لأنه مشرك مرتد معاند ، وقال إمام الحرمين  في " تلخيص كتاب القاضي " : بحث التحسين والتقبيح  يرجع إلى ما يحسن ويقبح في التكليف ، وهما راجعان إلى حكم الرب شرعا لا إلى وصف العقل ، وصارت المعتزلة  إلى أن قبح القبيح يرجع  [ ص: 180 ] إلى ذاته ، والأكثرون منهم صاروا إلى مثل ذلك في الحسن ، وأما أهل الحق فقالوا : لا يدرك بمجرد العقل حسن ولا قبح ; لأن الحسن ما ورد الشرع بتعظيمه ، والقبيح ما ورد بذمه ، فالحسن والقبح على التحقيق هو عين التحسين والتقبيح الشرعيين ، وقد أطبقت المعتزلة  على أن حسن المعرفة والشكر ، وقبح الكفر والظلم ، مما يدرك بضرورة العقل ، وقال عبد الجليل  في " شرح اللمع " : أفعال المكلفين عند المعتزلة  على أربعة أضرب : أحدها : ما يعلم حسنه بالعقل ولا مجال للسمع فيه ، كشكر المنعم والعدل والإنصاف والعلم ، والثاني : ما يعلم قبحه بالعقل ، وهو ضد ما ذكرنا من الجور وكفر المنعم والجهل وهذان الضربان يعلمان بمجرد العقل . 
والثالث : ما في معلوم الله أن فعله يؤدي إلى فعل ما هو حسن في العقل فهو عندهم حسن إلا أنهم لا يعلمون حسنه إلا بعد ورود الشرع كالصلاة ، والصيام ، والزكاة والحج . والرابع : ما هو في معلوم الله أنه قبيح ولا يعلم حتى يرد السمع فيكون تركه داعيا إلى القبح في العقل كالزنى واللواط ، وشرب الخمر ، وقتل النفس . فهذا لا يعلم قبحه إلا بعد ورود السمع . هذا مذهبهم في تقسيم الحسن ، والقبح ، وقال الإمام أبو نصر بن القشيري  في " المرشد " : الشيء عندنا لا يحسن ولا يقبح لنفسه بل إنما ترجع الأحكام إلى قول الشارع ، وقالت المعتزلة    : لا يتوقف إدراك الحسن والقبح على السمع بل يدركان  [ ص: 181 ] بالعقل ، ثم منها ما يدرك بضرورة العقل كالكفر ، والضرر المحض ، ومنها ما يدرك بنظره كوجوب شكر المنعم . قال : ومن قال من أئمتنا : لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع فهو متجوز ; لأنه توهم أن الحسن زائد على الشرع وليس كذلك ، فإن الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله وكذا القبيح . وقال في كتابه في أصول الفقه : معنى قول المعتزلة    : إنه يقبح كذا أو يحسن كذا عقلا أنه يدرك ذلك منهما من غير إخبار مخبر . 
وقال ابن السمعاني  في " القواطع " : الذي ذهب إليه أكثر أصحاب  الشافعي  أن التكليف مختص بالسمع دون العقل وأن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه ، ولا حظر ولا إباحة ، ولا يعرف شيء من ذلك حتى يرد السمع فيه ، وإنما العقل آلة تدرك بها الأشياء ، فيدرك به حسن وقبح بعد أن ثبت ذلك بالسمع ، وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة كثيرة ، وهم الذين امتازوا عن متكلمي المعتزلة  ، وذهب إليه جماعة من الحنفية . 
وذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن للعقل مدخلا في التكليف ; لأن الحسن والقبيح ضربان    : ضرب علم بالعقل ، وضرب علم بالسمع . فأما المعلوم حسنه بالعقل فهو العدل ، والإنصاف ، والصدق وشكر المنعم ، وغير ذلك ، وأما المعلوم حسنه بالشرع فنحو الصلاة والصيام ، والزكاة والحج ونحوه ، وأما المعلوم قبحه بالشرع فكالزنى وشرب الخمر ونحوه . قالوا : وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل يكون وروده مؤكدا لما في العقل إيجابه وقضيته ، وزعموا أن الاستدلال على معرفة الصانع واجب بمجرد العقل قبل ورود السمع به ودعاء الشرع إليه ، وهذا مذهب المعتزلة  بأسرهم ، وذهب إليه من أصحابنا  أبو بكر القفال الشاشي   [ ص: 182 ]  وأبو بكر الصيرفي  ، وأبو بكر الفارسي  ،  والقاضي أبو حامد  ، وغيرهم ، والحليمي  من المتأخرين ، وذهب إليه كثير من أصحاب  أبي حنيفة  خصوصا العراقيين  منهم ، واستدلوا بأن الله تعالى وبخ الكفار على تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم . فقال : { لآيات لأولي الألباب    } وقال : { لأولي النهى    } وقال : { أفلا تعقلون    } { لقوم يعقلون    } { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل    } . قال : والصحيح : هو الأول وإياه نختار ونزعم أنه شعار السنة . ودليله قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا    } ولم يقل حتى نركب عقولا . وقال حكاية عن الملائكة في خطاباتهم مع أهل النار { ألم يأتكم رسل منكم    } وقال تعالى : { ألم يأتكم نذير    } فدل على أن الحجة إنما لزمتهم بالسمع دون العقل . 
وقال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل    } فدل على أنه لا حجة بمجرد العقل بحال ، وأما الآيات التي ذكروها ، فنحن نقول : إن العقل آلة تمييز وبه تدرك آلة الأشياء ويتوصل إلى الحجج ، وإنما الكلام في أنه بذاته هل يستقل بإيجاب شيء آخر أو تحريمه . 
قال : وهذه مسألة كلامية وإنما اقتصرنا فيها على هذا القدر وذكرناها في أصول الفقه ; لأنه محتاج إليه في مسائل من الفقه . انتهى . وما نقله عن  القفال الشاشي  ،  والصيرفي  رأيته في كتابيهما في الأصول  [ ص: 183 ] أما القفال  ، فقال : أحكام الشرع ضربان : عقلي واجب ، وسمعي ممكن . فالأول : ما لا يجوز تغيره ولا يتوهم جواز استباحة ما يحظر ، ولا حظر ما أوجب فعله كتحريم الكفر والظلم والعدل ونحوه . وقد يرد السمع بهذا النوع فيكون مؤكدا لما وجب بالعقل . والثاني : كأعداد الصلوات وهو موقوف على تجويز العقل وقبوله إياه فيما جوزه العقل فهو مقبول ، وما رده فمردود ، ومتى ورد السمع بإيجابه صار واجبا إلى أن يلحقه النسخ والتبديل . هذا كلامه ، وأما الصيرفي  فقال : في كتاب " الدلائل والأعلام " : لا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل ، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين : أحدهما : مؤكد لما في العقل إيجابه ، أو حظره ، أو إباحته كتحريم الشرك ، وإيجاب شكر المنعم ، والثاني : ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه كالصلاة ، والزكاة . فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب . قال : ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك . 
قال : والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه . قال : وجماع نكتة الباب أن الذي يرد السمع مما يثبته العقل إنما يأتي تنبيها ، كقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض    } { وما خلق الله من شيء    } وإنما أتى بالشيء الذي العقل عامل فيه . وقد يفكر الإنسان في خلق نفسه وخلق السموات والأرض وتدبر آثار الصنعة ، فيستدل على أن لها صانعا حكيما ،  [ ص: 184 ] فبهذا يعلم أن تنبيه السمع بين في العقل انتهى . 
واعلم أن هؤلاء عدوا هذا إلى غيره ، فقالوا : يجب العمل بخبر الواحد  عقلا ، وبالقياس عقلا ونقل ذلك عن ابن سريج  ، والقفال  وغيرهما ، وذكروا في الاعتذار عن موافقتهم للمعتزلة  وجهين : أحدهما : أن ذلك كان في أول أمرهم ثم رجعوا عنه . قال  ابن عساكر  في تأريخه " : كان القفال  في أول أمره مائلا عن الاعتدال قائلا بالاعتزال ، ثم رجع إلى مذهب الأشعري    . الثاني : قال  القاضي أبو بكر  في كتابه " التقريب " والأستاذ أبو إسحاق  في تعليقه " في أصول الفقه ، وله في " شرح كتاب الترتيب " نحوا من هذا أيضا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . ولما حكينا هذه المذاهب علم أن هذه الطائفة من أصحابنا كابن سريج  كانوا قد برعوا ، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام ، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة  فاستحسنوا عباراتهم غير عالمين بما يؤدي إليه مقالاتهم من قبح القول ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين ، والأحسن تنزيله على ما سنذكره في المنقول عن  أبي حنيفة  ، وقال  القاضي عبد الوهاب  في " الملخص " ذهبت المعتزلة  إلى أن العقول بمجردها تحسن وتقبح ، وأن كثيرا من الحسن يعلم حسنه بمجرد العقل وضرورته دون أدلته ، وكذلك القبيح مثل وجوب شكر المنعم وقبح الكفر وغيره . 
وقال صاحب " الكبريت الأحمر " من الحنفية : مذهب أصحابنا  [ ص: 185 ] وجميع المعتزلة  أن أصول الواجبات والحسن والقبيح في الأفعال كلها مدركة بالعقل سواء ورد عليها حكم الله بالتقرير أو لم يرد ، ومذهب الأشعرية  أنها لا تعرف إلا بالشرع . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					