الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ أفعال العقلاء قبل الشرع ] قال : واختلف أصحابنا في أفعال العقلاء قبل الشرع فمنهم من قال : إنها على الحظر ، ومنهم من قال : على الإباحة . ا هـ . وحكى الباجي القول بالحظر عن الأبهري ، وحكى عبد الوهاب عنه الوقف . الثالث : أنها على الوقف لا نقول : إنها مباحة ولا محظورة . وقال ابن السمعاني في القواطع " : وهو قول كثير من أصحابنا منهم أبو بكر الصيرفي والفارسي وأبو علي الطبري . وبه قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه وكذا حكاه القاضي أبو الطيب الطبري . وبه قال بعض المعتزلة ، وحكاه ابن حزم عن أهل الظاهر . [ ص: 206 ] وقال : إنه الحق الذي لا يجوز غيره إلا أن طريق الوقف مختلف ، فعندنا لعدم دليل الثبوت وهو الخبر عن الله ; لأن الحكم عبارة عن الخطاب فحيث لا خطاب لا حكم . وقيل : لأنه ليس لله هناك حكم أصلا . والحق أنه لا بد لهذه الأفعال من حكم عند الله ، وقد تعذر الوقوف عليه لخفائه ، فيوقف في الجواب إلى الشرع .

                                                      [ سبب الوقف عند القائلين به ] والقائلون بالوقف اختلفوا في سببه : فقالت الأشاعرة : لأن الوجوب وغيره من الأحكام أمور شرعية ولا شرع فتنتفي هذه الأحكام . وقال بعض المعتزلة : لعدم الدلالة على أحدها مع تجويز أن يكون العقل دليلا بالوقف لأجل عدم الدليل . حكاه صاحب المصادر " وقواه ونقله عن المفيد من الشيعة . وقال الباجي : إنه قول أكثر أصحابهم ، ونقله عبد الوهاب في الملخص " عن ابن عتاب . قال : وكان يحكيه عن القاضي إسماعيل . وبه قال أبو بكر الأبهري والصيرفي ، وهو مذهب أصحابنا المتكلمين . [ ص: 207 ] وقال الأستاذ أبو إسحاق : معنى الوقف عندنا أنا إذا سبرنا أدلة العقول دلتنا على أنه لا واجب على أحد قبل الشرع في الترك والفعل . ثم الفرق بين قولهم وقول أصحاب أهل الإباحة : أن القائلين بالوقف عندهم كل من اعتقد فيه نوعا من الاعتقاد لم يتوجه عليه الذم ، والقائلون بالإباحة لا يجوزون اعتقاد الحظر في الإباحة ، ومن قاله واعتقده فقد أخطأ وتوجه عليه الذم . انتهى .

                                                      فظن سليم الرازي اتحاد المذهبين . فقال : إن القائلين بالوقف قالوا : إن من تأول شيئا أو فعل فعلا لا يوصف بأنه أثم حتى يدل دليل الشرع عليه ، فكأنهم وافقوا في الحكم وخالفوا في الاسم . وسيأتي مثله عن القاضي عبد الوهاب . وقال الأستاذ في موضع آخر : ذهب أهل الحق إلى أن في العقل بمجرده دليلا على أن لا واجب على الإنسان قبل بعثة الرسل ، وأن لله أن يوجب علينا ما شاء مما أمكن برسول بعثه . قالوا : ولو استدل مستدل من غير وجوب عليه أمكنه الوصول إلى جميع ما ذكرناه بما نصبه عليه من الأدلة ، ويستحيل قلبها عما هي عليها . قال : وهذا معنى قولهم : إن أفعال العباد على الوقف قبل الشرع . وتفسيره : أن كل من فعل شيئا قبل ورود الرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يقطع له بثواب ولا عقاب . قلت : وممن صرح بأن المراد بالوقف انتفاء الحكم لا التردد في أن الأمر ما هو ؟ أبو نصر بن القشيري ، وأبو الفتح بن برهان . فقال : القائلون بالوقف لم يريدوا به أن الوقف حكم ثابت ولكن عنوا به عدم الحكم . [ ص: 208 ]

                                                      وقال ابن السمعاني في القواطع " : ليس معنى الوقف أنه يحكم به ; لأن الوقف حكم نقل الحظر والإباحة ، والمانع من القول بالحظر والإباحة مانع من القول بالوقف ، وإنما معنى الوقف أنه لا يحكم للشيء بحظر ولا إباحة لكن يتوقف في الحكم لشيء ما إلى أن يرد به الشرع . قال : وهذه المسألة مبنية على أن العقل بمجرده لا يدل على حسن ولا قبح وإنما ذلك موكول إلى الشرع . فنقول : المباح ما أباحه الشرع ، والمحظور ما حظره ، فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم يبق إلا الوقف إلى أن يرد السمع بحكم فيه . ا هـ . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : تأويل قول أصحابنا الوقف لا يرجع إلى إثبات صفة هي عليها في العقل ولكن إلى أن التصرف فيها غير محكوم بأنه مباح أو محظور خلافا لمن اعتقد أنه محكوم له بأحد الأمرين . فعبرنا عن نفي الحكم بأنهما على الوقف . ولا معنى لقول من قال : إذا كان هذا من حكمها ثابتا عندكم في العقل فقد جعلتم لها حكما ثالثا في العقل ، وأن ذلك نقض لقولكم : لا حكم لها في العقل ; لأن غرضنا من ذلك ما ذكرنا من أنه لا حكم لها بحظر ولا إباحة وهذا خلاف في عبارة . انتهى .

                                                      واعلم أن أبا الحسين بن القطان حكى في المسألة أربعة مذاهب : الإباحة والحظر ، والثالث : الوقف على الأدلة ، فما قام عليه الدليل ونفى النافي على ما كان عليها . قال : وهو قول من قال : إنها ليست محظورة ولا مباحة . والرابع : أن الإباحة تحتاج إلى مبيح والحظر يحتاج إلى حاظر فيشير بما يوجب حكمه فيهما . انتهى .

                                                      وهذا الخلاف إنما هو في تفسير الوقف كما سبق . ثم قال : ومن أصحابنا من قال : إن تحريك اليد ونحوه قد حصل الإذن فيه بالعقل ; لأن الجوارح لا تنفك من حركة . ثم نقل عن أبي بكر الصيرفي [ ص: 209 ] أنه كان يذهب إلى بطلان العقل ، وأن التحريم والتحليل إنما يتعقل بالشرع . قال : وهذا لا ينازعه فيه أحد ، وإنما نقول له : هل للعقل في هذا " لو " انفرد ؟ وهل يجب أن يصار إليه ؟ فإن قال : لا . قلنا : ليس كلامنا فيه . وإن أراد الجواز أقمنا الأدلة على أن للعقل دخلا في الجواز . انتهى . وقال المازري : الراجح عندنا الوقف . ونعني به القطع على أن لا حكم لله سبحانه في حقنا . قال : وأشار إمام الحرمين إلى أن الخلاف بين القائل بالإباحة والقائل بالوقف لفظي وظن أنهم يريدون بالإباحة هاهنا استواء الفعل وتركه في باب الذم وغيره . لكن غيره من أئمتنا الناقلين لهذا المذهب عن المعتزلة لم يحمله على ذلك . واعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقا للمعتزلة على أصولهم بل لمدرك شرعي . أما التحريم فلقوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } ومفهومه أن المتقدم قبل الحل التحريم . فدل على أن حكم الأشياء كلها على الحظر . وأما الإباحة ، فقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فهذه مدارك شرعية دالة على الحال قبل ورود الشرع فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء : لا علم لنا بتحريم ، ولا إباحة . بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون : المدرك عندنا العقل ولا يضرنا عدم ورود الشرع .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية