الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ جواز ترك الواجب الموسع أول الوقت ] وهؤلاء المعترفون بالواجب الموسع اختلفوا في جواز تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء كان ، فقال جمهور الفقهاء : لا يشترط البدل ولا يعصي حتى يخلو الوقت كله عنه . [ ص: 279 ] العزم على الفعل ] وجمهور المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلى بدل ، وهو العزم على الفعل في ثاني الحال ، وإذا تضيق الوقت تعين الفعل حتى يتميز بذلك الواجب عن فعل النفل ، فلو مات في أثناء الوقت مع العزم لم يعص ، وهذا ما صار إليه الأستاذ أبو بكر بن فورك ، والقاضي أبو بكر ، ونقله عن المحققين ، ونقله صاحب الواضح " عن أبي علي ، وأبي هاشم ، وعبد الجبار المعتزليين ، وحكاه صاحب المصادر " عن الشريف المرتضى ، وأنكره الباقون كأبي الحسين البصري ، واختاره الآمدي والبصري فقالوا : لا حاجة إلى العزم بل يجوز التأخير بدونه ، وهما وجهان لأصحابنا . حكاهما القاضيان الطبري ، والماوردي وغيرهما . والصحيح منهما كما قاله النووي : وجوب العزم ; ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير ، ونظير هذا المديون لا يجب عليه الأداء ما لم يطالب ، ويجب عليه العزم على أدائه عند المطالبة ، وممن أنكر العزم على القاضي إمام الحرمين لتخيله أمرين نسبهما إليه . أحدهما : أنه ظن أنه أخذ العزم من الصيغة ، ولا ظهور له منها ، فإذا كان يتوقف فيما لم يظهر قاطع فيه على أحد المحتملين ، فكيف لا يتوقف فيما لم يظهر له فيه احتمال ؟ . وثانيهما : أنه ظن أنه جعل العزم بدلا من نفس الفعل حتى إذا وجب العزم سقط وجوب نفس الفعل ، وليس كذلك فإنما أخذ القاضي العزم [ ص: 280 ] من دليل العقل الذي هو أقوى من دليل الصيغة من جهة أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، والعزم عنده بدل من تقديم الفعل الواجب ، فإذا عزم فقد سقط وجوب التقديم لا بدل من نفس الفعل .

                                                      وكذا أنكره الإمام أبو نصر بن القشيري قال : ولعله يقول : حكم العزم الأول ينسحب على جميع الأوقات فلا يجب تذكره في كل حال ، كالنية في الصلاة . قال : وعنده أن دليل العزم لا يتلقى من اللفظ بل من دليل آخر ، وهو خروج عظيم ، وأدنى ما فيه التزام أمر لم يشعر به اللفظ ، قال : ومن عجيب الأمر توقف القاضي في صيغة " افعل " إذا وردت على التردد ، ثم التزام إثبات العزم الذي ليس في اللفظ إشعار به ، ثم إنه وجب في كل وقت الفعل أو العزم ، فقد أخرج الفعل عن كونه واجبا على التعيين . قال : وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على المخاطب الاعتناء بالعزم في كل وقت إلا تيقن الامتثال فيه . وأطنب إلكيا الهراسي في تزييف القول بالعزم ، وقال : يجب طرحه ، وقال القاضي أبو الطيب : لم يذكره أصحابنا المتقدمون ، ولا يحفظ عن الشافعي .

                                                      واختار الغزالي طريقة وسطى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك ، فلا يجب عليه العزم ، وبين من خطر بباله الفعل والترك ، فهذا وإن لم يعزم على الفعل عزم على الترك ضرورة ، فيجب عليه العزم على الفعل ، واستحسنه القرافي في قواعده " ، وهو في الحقيقة راجع لمذهب القاضي ، إذ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة ; لأنه محال . وقال المازري : لما كان القاضي وابن فورك يريان أن من مات في أثناء [ ص: 281 ] الوقت قبل الفعل لا يأثم ألزموا الجمع بين إباحة الشيء والتأثيم منه ; لأنا نجوز له التأخير ، فكيف نؤثمه ؟ اعتذر عن هذا الإلزام بأن أثبتوا العزم على إيقاع الفعل بدلا من تقديم إيقاعه ، ورأوا أن التأخير لم يسقط وجوبه إلا بإثبات عوض منه ، وهو العزم ، فأشبه تخيير الحانث بين الإطعام والكسوة ، فإن الإطعام وإن لم نؤثمه في تركه إذا لم يفعله ، وعوض عنه الكسوة لم يخرج عن حقيقة الوجوب ألبتة ، وإنما يسقط إلى بدل ، وأنكر إمام الحرمين إثبات العزم هنا ولم يره انفصالا عن الإلزام .

                                                      قال المازري : وكان دار بيني وبين الشيخ أبي الحسن اللخمي في هذا مقال فإنه أنكر إيجاب العزم واستبعده كما استبعده الإمام ، فلم يكن إلا قليلا حتى قرأ القارئ في البخاري حديث { إذا التقى المسلمان بسيفيهما } الحديث ، وفيه تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بكون المقتول في النار ، لكونه حريصا على قتل صاحبه ، فقلت : هذا يدل للقاضي ، فلم يجب بغير الاستبعاد .

                                                      وذكر الإمام عن القاضي أنه يقول بالعزم ، وتردد المكلف بين العزم والفعل كل وقت إلى آخر زمن الإمكان ، ثم قال : ولا يظن بهذا الرجل العظيم يعني القاضي أنه يوجب العزم تكريرا ، وإنما يراه يجب مرة واحدة ، [ ص: 282 ] ويستحب حالة هذه الأزمنة ، كالنية المنسحب حكمها من أول العبادة على أثنائها ، وهذا خلاف ما حكي عنه أولا . ا هـ .

                                                      والقائلون بالعزم اختلفوا ، فقيل : هو بدل من نفس الفعل الذي هو الصلاة وغيرها ، وهو قول الجبائي ، واقتصر عليه الشيخ في اللمع " ; لأن الواجب لا يجوز تركه ، وقيل : إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره ، واختاره القاضي أبو الطيب ; لأن العزم لو كان بدلا لسقط به الوجوب ، وقيل : هو بدل من فعلها أول الوقت ، لا من فعلها ; لأنه لو كان بدلا منها لسقطت . قالوا : ومعنى قولنا إنه بدل من فعلها في أول الوقت الأول أنه بدل من فعل لو وقع لبرئت ذمته ، وهو غير الفعل الذي يقع من بعد . حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " في الكلام على أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو التراخي ؟ وقال أبو الحسين في المعتمد " : المثبتون للبدل اختلفوا هل هو من فعل الله سبحانه أو من فعلنا ؟ فقال أبو علي وأبو هاشم : إن بدل الصلاة أول الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل . وقال بعض أصحابنا : إن لها في أول الوقت ووسطه بدلا يفعله الله سبحانه يقوم مقام الصلاة ، وهو ضعيف ; لأنه يلزم عنه أن لا يحسن لتكليف الصلاة من يعلم الله أنه يخترم في الوقت ; لأنه يقوم فعل الله سبحانه مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت ، فلو كلفه الصلاة لكان إنما كلفه بمجرد الثواب فقط . [ ص: 283 ]

                                                      واعلم أن أصحابنا اتفقوا في الأمر المطلق على وجوب العزم عند ورود الأمر ، وكأن الفرق : أن المقيد بوقت موسع لما كان آخر وقته معلوما بأن ذلك مع اعتقاد وجوبه ينافي العزم على الفعل بخلاف الأمر المطلق ، فإن العزم فيه ينوب مناب تعجيل الفعل وتعيين الوقت . ذكره بعض شراح اللمع " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية