الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ شروط التخيير ] وأما الرابع : وهو شروط التخيير ، وقد ذكروا له شروطا : أحدها : أن يتعلق بما يصح اكتسابه . [ ص: 262 ] الثاني : أن تتساوى الأشياء في الرتبة من جهة التخيير في الوجوب والندب والإباحة ، وسواء كانت متضادة أو مختلفة ، فلا يجوز التخيير بين قبيح ومباح ، ولا بين واجب ومندوب ، وإلا لانقلب أحدهما الآخر ، ولا بين حرام وواجب فإن التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم ، والتخيير بين الواجب وتركه يرفع الوجوب . ولهذا إذا تعارض دليلان عند المجتهد بهذه المثابة تساقطا وامتنع التخيير . ولهذا أيضا ردوا على داود استدلاله على وجوب النكاح بقوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ; لأن قوله { أو ما ملكت أيمانكم } تخيير بين النكاح وبين ملك اليمين . والثاني : لا يجب إجماعا ، فلذلك ما خير بينه وبينه ، وقد استشكل على ذلك قضية تخييره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بين الخمر واللبن ، فأجيب بأن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرم ، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم وسداد نظره المعصوم ، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن ، فوافق الصواب .

                                                      قلت : وأصل السؤال غير وارد ، إذ لا نسلم أن التخيير وقع بين مباح [ ص: 263 ] وحرام ، إذ تلك الخمرة من الجنة ، لا يقال : لو كان كذلك لم يجتنبها ; لأنا نقول : لما شابهت الخمرة المحرمة تجنبها ، وذلك أبلغ في الورع وأدق سلمنا . إلا أن الخمر كانت حينئذ مباحة ; لأنها إنما حرمت بالمدينة بلا خلاف ، والإسراء كان بمكة . فإن قلت : قول جبريل عليه الصلاة والسلام له حين اختار اللبن : أصبت يدل على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه صلى الله عليه وسلم . قلت : يؤنس فيها بالتحريم المستقبل . وهنا أمران : أحدهما : أن الغزالي في المستصفى " عند الكلام في تعارض الأدلة أشار إلى احتمال بالتخيير ، وإن لم يتساويا في الرتبة ; لأن الوجوب إنما يناقض جواز الترك مطلقا ، أما جوازه بشرط فلا . بدليل : أن الحج واجب على التراخي ، وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يعص إذا أخر مع العزم على الامتثال ، فظهر أن تركه بشرط العزم لا يناقض الوجوب ، بل المسافر يخير بين أن يصلي أربعا فرضا ، وبين أن يترك ركعتين واجبتين ، ويجوز تركهما ، ولكن بشرط قصد الترخص .

                                                      ثانيهما : لا يرد على هذا الشرط التخيير بين خصال الكفارة بأنها مخير فيها ، وليس الجميع بواجب ; لأنا نقول المراد أنه ما من واحدة يمكن الإقدام عليها إلا وتقع واجبا .

                                                      قال القاضي : وهذا مرادنا بالتساوي . الثالث : أن تكون متميزة للمكلف فلا يجوز التخيير بين متساويين من [ ص: 264 ] جميع الوجوه لا يتخصص أحدهما عن الآخر بوصف ، كما لو خير بين أن يصلي أربع ركعات ، وبين أن يصلي أربع ركعات مع تساويهما في كل النعوت . هذا مما لا يدرك في حكم التكليف ، وإن كان المتماثلان متغايرين كما أن المختلفين متغايران . الرابع : أن تكون معلومة للمخاطب .

                                                      الخامس : أن يكون وقتها واحدا بأن يتأتى الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد بدلا عن أغيارها ، فلو ذكر للمخاطب فعلان مؤقتان بوقتين فلا يكون ذلك تخيرا ، فإنه في وقت الإمكان لا يتمكن من الفعل الثاني ليتنجز ، وفي الثاني لا يتمكن من الأول فلا يتحقق وصف التخيير أصلا ، وإنما يتحقق ذلك في وصفين يجوز ثبوت أحدهما بدلا عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت . هكذا شرطه القاضي ، وبناه على أصله في وجوب العزم بدلا عن الفعل ، ونازعه ابن القشيري وغيره في هذا الشرط ، فإنه لو قال : خط هذا القميص يوم السبت ، أو هذا القباء يوم الأحد كان تخييرا صحيحا ، وقد ورد الشرع به في الصوم في السفر ، وقد يقع التخيير بين الضدين ، كقم أو اقعد ، أو خلافين ، كخصال الكفارة وجزاء الصيد ، أو مثلين كصل ركعتين غدا أو بعد غد ، وزعم المازري أنه لا يرد التكليف إلا على القول بتكليف ما لا يطاق ، وفيه نظر . السادس : أن يكون أحدهما معلقا بشرط ، وبهذا يرد على الرافعي وصاحب الحاوي الصغير " حيث جعلا غسل الرجلين أو المسح على الخف من الواجب المخير ، فإنه لا يمتنع التخيير بينهما في حالة واحدة ، كالعتق [ ص: 265 ] والإطعام مثلا . بل مسح الخف لا يجوز إلا بشروط ، وإذا لبسه بشرطه فلا يتصور مع دوام اللبس التخيير بل واجبه المسح ، فإن نزع فالغسل ; ولأن غسل الرجل لا يكون إلا عند فوات جواز المسح على الخف إلا أن يقال : إن الرجل تغسل وهي في الخف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية