القسم الرابع : أن يدخل وقت المأمور به ، لكن ينسخ قبل فعله  ، إما لكونه موسعا ، وإما لأنه أراد أن يشرع فينسخ . فقال سليم  ، وابن الصباغ  في " العدة " : إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه ، وجعلا الخلاف فيما قبل دخول الوقت ، وكذلك فعل ابن برهان  في " الأوسط "  والقاضي   [ ص: 229 ] من الحنابلة ، وكذا نقل فيه الإجماع صاحب " الكبريت الأحمر " . قال : للمعنى الذي جاز نسخه بعد إيجاده ، وهو انقلاب المصلحة مفسدة ، وكذا الآمدي  في أثناء الاستدلال ، فإنه قال : والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده . وكلام إمام الحرمين  في " البرهان " مصرح به ، وجرى عليه العبدري  في " شرح المستصفى " فقال : النسخ قبل التمكن من الفعل ثلاث صور : إحداها : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة كلها . 
الثانية : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما يقع فيه بعضها . فهاتان الصورتان متفق على جواز النسخ عندالأشعرية  ، والمعتزلة  فيهما ، لأن شرط الأمر حاصل ، وهو التمكن من الفعل . 
الثالثة : أن يرد الأمر قبل وقته المعتد به ثم ينسخ قبل دخول ذلك الوقت ، فهو موضع الخلاف . ا هـ . 
وفي هذا رد على القرافي  وغيره حيث أجروا خلاف المعتزلة  هنا . نعم ، الخلاف ثابت بنقل الهندي  أن في بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم  كالكرخي  خالف فيه . وقال : لا يجوز النسخ قبل الفعل ، سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أم لم يمض . 
وقد أطلق جماعة من أئمتنا حكاية الخلاف في النسخ قبل الفعل ، وهو يشمل هذه الصورة . وحكى الماوردي  فيها ثلاثة أوجه ، فقال : إذا ورد  [ ص: 230 ] النسخ قبل اعتقاد المنسوخ وقبل العمل به ، ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : لا يجوز ، كما لا يجوز قبل الاعتقاد . 
والثاني : يجوز كما يجوز بعد العمل ، لأن الاعتقاد من أعمال القلب . 
والثالث : لا يجوز إلا إن مضى بعد الاعتقاد زمان العمل به وإن لم يعمل به ، لاختصاص النسخ بتقديره التكليف ، وذلك موجود بمضي زمانه . ا هـ . وقضيته جريان الخلاف مطلقا فيما قبل التمكن وبعده . وعن  أبي العباس بن سريج  حكاية وجهين لأصحاب  الشافعي  في النسخ قبل الفعل . أحدهما : المنع . والثاني : التفصيل بين أن ينقل من فرض إلى إسقاطه فيجوز ، لأن الإسقاط حصل فيه الإثبات للتخفيف ، وهذا الوجه رأيته محكيا في كتاب  أبي إسحاق المروزي  الذي ألفه في الناسخ والمنسوخ قال : باب ذكر نسخ الفرض المأمور به قبل أن يستعمل منه شيء ، بإسقاطه أو بالنقل إلى غيره . قال  أبو إسحاق    : لست أحفظ  للشافعي  في هذا الباب شيئا نصا إلا ما ذكره في بعض المواضع من أن الله عز وجل إذا فرض شيئا استعمل عباده به ما أحب ، ثم نقلهم منه إذا شاء . هذا معناه ، وليس فيه ما يقتضي الجواز أو المنع ، لكنه إلى المنع أقرب . وقد ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه خمسون صلاة حيث أسري به ، ثم رد إلى خمس ، فصار نسخا قبل استعماله . وكذلك قصة إبراهيم  في الذبح ، ونسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ، وعهد النبي عليه السلام مع قريش  أن يرد عليهم من جاءه من نسائهم ، وذلك نقل عما أمروا به قبل استعماله . قال أبو إسحاق    : وهذا كله محتمل ، والأصح عندي على مذهب  الشافعي  أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل أن يستعمل منه شيء . وأما الانفصال عن جميع ما ذكر على مذهب  الشافعي  ، والجواب في ذلك على وجهين :  [ ص: 231 ] أحدهما : أنه لا يجوز نسخ شيء لم يستعمل منه شيء بأي وجوه النسخ كان نقلا من فرض إلى غيره ، أو من وجوب إلى إسقاط أو من حظر إلى إباحة أو عكسه . 
والثاني : أن ذلك جائز فيما نقل من فرض إلى إسقاط ، لأن الإسقاط قد حصل منه الامتنان بالتخفيف ، وهو المقصود ، ولهذا قال تعالى : { الآن خفف الله عنكم    } فامتن بالتخفيف بعد التغليظ ، فهذا جائز ، فأما إذا نقل من فرض إلى مثله أو أغلظ منه ، فليس ذلك موضع الامتنان ولا المقصد في الأمر الأول إلا فعل ما أمروا به ، والنقل عن ذلك إلى مثله لا مقصد فيه ينسب إلى الله تعالى فعلا ، إلا ويكون في ذلك مقصد معتزلي معروف . 
ثم قال : وإنما حمل القائلين بجواز النسخ قبل الفعل مراعاة مذهبهم في المنع من تأخير البيان ، فأرادوا تصحيح مذهبهم . فسموا ما وقع التأخير فيه نسخا ، لئلا يلزمهم تأخير البيان ، فعدلوا عن تسميته بيانا إلى النسخ ، لذلك قال : وأول من فعل ذلك القاشاني    . وقد كان قوله بتأخير البيان أولى ثم ، وأشبه بمذاهب أهل العلم في جواز تأخير البيان . 
ثم قال : فإن قلنا بالوجه الثاني فما ذكروه من الأدلة ساقط ، لأن جميعها نقل من فرض إلى إسقاط . والامتنان في جميع ذلك ثابت ، وإن قلنا بالأول وهو نفي جواز ذلك مطلقا . فالجواب عنه : أنها كلها نسخ بعد الشروع في الأمر ، ونحن إنما نمنع من قبل أن يؤتى منه بشيء ، وقصة إبراهيم  أتي فيها بالإضجاع ، وإمرار السكين ، والطعن به ، وكذلك قصة النجوى ، فقد فعلها بعض الصحابة ، وقصة الصلاة لا نسميه نسخا ، لأنه لم يستقر الأمر إلا بخمس . وأما قصة الصلح ، فقال  الشافعي    : إن الصلح كان قد وقع في الرجال والنساء ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم الرجال ، ومنع من رد النساء ، وأعطوا الغرض منه ، فقد استعمل بعد الفعل ، ونحن لا نمنع وقوع النسخ بعد أن يفعل بعضه . هذا خلاصة كلامه . 
				
						
						
