القسم السادس : أن يقع بعد خروج الوقت قبل فعله    : مقتضى استدلال  ابن الحاجب  أنه يمتنع بالاتفاق ، ووجه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء شرطه ، وهو الوقت ، وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم ، لكن صرح الآمدي  في الإحكام بالجواز ، وأنه لا خلاف فيه . قيل : ولا يتأتى الأمر إذا صرح بوجوب القضاء ، أو قلنا : الأمر بالأدلة يستلزمه ، والصواب هذه الطريقة ، فإن أبا الحسين البصري  من المعتزلة  قطع به ، فقال في " المعتمد " : نسخ الشيء قبل فعله ضربان : نسخ له قبل وقته ، وهو غير جائز عند شيوخنا المتكلمين  ، وذهب بعض الفقهاء إلى جوازه ، ونسخ له بعد مضي وقته ، وهو جائز ، لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات مفسدة . قال : ولا فرق في جواز ذلك في العقل بين أن يعصي المكلف أو يطيع . ا هـ . 
فهذا تصريح بأن خلاف المعتزلة  لا يجيء في هذه الصورة ، بل هي  [ ص: 233 ] محل وفاق بيننا وبينهم . لكن القاضي  في " التقريب " صرح بجريان خلافهم في هذه المسألة ، فقال : لا يستحيل عندنا أن ينسخ الفعل قبل وقوعه ، وبعد مضي وقته الذي وقته به  ، لا على أن يقال للمكلف : لا تفعله في الوقت الماضي الذي كان قد وقت به لاستحالته ، ولكن يجوز النسخ له والنهي عنه قبل فعله ، ومع فعله ، وبعد مضي وقته ، بأن تعاد القدرة على فعله أو على تركه في المستقبل ، لأن ذلك يصح ، ثم يؤمر المكلف بأن يفعله مرة ثانية فيما بعد إذا عرفه بعينه ، ثم يقال له : قبل دخول وقته الذي وقت له ثانيا : لا تفعله فقد نهيناك عنه هذا جائز غير ممتنع ، ويكون نسخا للشيء قبل وقته ، وقبل إيقاعه ، ومنع إيقاعه في وقته الأول . قال : وهذا لا يصح إلا مع القول بجواز إعادة أفعال العبادات ، والمعتزلة  ينكرونه ، وعلى إعادة الباقي من أفعال العباد وغير الباقي ، فلذلك أحالوا نسخ الشيء قبل تقضي وقته ، إما لاختصاصه بالزمان ، أو لاستحالة الإعادة عليه ، وإن كان باقيا . ومن وافقهم من الفقهاء على مسألة النسخ فلم يعرف ما أرادوا من ذلك ، فليحذر الفقيه السليم من بدعتهم . 
تنبيهات 
الأول : أن  القاضي أبا الطيب الطبري  ترجم المسألة بالنسخ قبل وقت الفعل ، ثم قال : وقال بعض العلماء بالأصول : إنما قلنا : نسخ الحكم قبل وقت الفعل ، ولم نقل : قبل فعله ، لأن المخالف يقول : يجوز قبل فعله ، وهو نسخ الفعل الثاني والثالث وما بعده . قال القاضي    : والصحيح أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل بينا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل ، وكل النسخ عندنا هكذا ، لأنه تخصيص للزمان ، وبيان لما يراد باللفظ ، كالتخصيص في الأعيان . ولا نقول : إن الله نسخ ما أمر به ، وأوجب علينا فعله ، وأراد إيجابه ، لاستلزامه البداء ، وهو محال . ا هـ .  [ ص: 234 ] وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني    : جوز الجمهور النسخ قبل الفعل ، وجعلوا الحقيقة إذا قال لهم : صلوا غدا ، واقتلوا زيدا ، ثم منعهم منه قبل دخول الوقت ، إنه إنما أمرهم به على وصف إن وجد سقط الأمر كأن قال : صلوا غدا ، واقتلوا زيدا إن لم تموتوا . 
الثاني : قال  ابن أبي هريرة  ، والأستاذ أبو إسحاق  ، والخفاف في " الخصال " : كل نسخ فإنما يكون قبل الفعل ، لأن ما مضى يستحيل لحوق النسخ له ، لأن النسخ رفع الحكم في المستقبل من الزمان ، فلا معنى لقول من أبطل النسخ قبل الفعل . ولهذا قال إمام الحرمين    : ترجمة المسألة بالنسخ قبل الفعل مختلة ، يعني لأنها تفهم صحة النسخ بعد الفعل ، وهو غير صحيح ، ولا نسخ أبدا إلا قبل الفعل ، سواء قلنا : إنه رفع أو بيان ، إذ لا ينعطف النسخ على سابق ، وإنما المراد به ، هل يجوز نسخ الفعل قبل دخول وقته ، أو قبل أن يمضي من وقت الأمر به ما يسعه ؟ فأهل الحق على جوازه ، والمعتزلة  على منعه ، ثم احتج بقصة الخليل  عليه السلام ، فإنه نسخ الأمر قبل وقوعه ، وهذا الدليل لا يطابق المدعى بظاهره . 
وصور الغزالي  المسألة في النسخ قبل التمكن من الفعل .  وأبو الحسين  في النسخ قبل وقت الفعل ، وتبعه  ابن الحاجب  وغيره . والأحسن أن يقال : قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته ، ليشمل ما إذا حضر وقت الفعل ، ولكن لم يمض مقدار ما يسعه ، فإن هذه الصورة من محل النزاع أيضا . قلت : والقائلون بالنسخ ، قيل : أرادوا به نسخ الخطاب الذي لم يتقدم به عمل ألبتة ، وحينئذ فلا يتوجه ما قاله الإمام  ، فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من مقتضاه ألبتة .  [ ص: 235 ] 
الثالث : أصل الخلاف هنا الخلاف السابق في صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته ، وكذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال . والمعتزلة  يمنعونه ، ولهذا أنكروا ثبوت الأمر المقيد بالشرط ، فمن قال : إنه يمتنع كالمعتزلة لزمه هنا عدم جواز النسخ قبل وقته ، إذ لا يتمكن قبل الوقت فلا أمر ، والنسخ يستدعي تحقق الأمر السابق ، فيستحيل النسخ عند عدمه ، ويلزم إمام الحرمين  موافقتهم هنا ، لأنه وافقهم على ذلك الأصل . أما من لم يقل بذلك كالجمهور ، فيجوز أن يقول بجوازه ، وأن لا يقول بذلك ، لما يظهر له من دليل تخصيصه ، وليست هذه المسألة فرع تلك على الإطلاق ، أعني في الجواز وعدمه كما أشعر به كلام الغزالي  ، بل في عدم الجواز فقط . وفي " تقريب " القاضي  أن أصل الخلاف هنا الخلاف الكلامي في جواز إعادة أفعال العبادة ، وقد سبق قريبا . 
				
						
						
