[ ص: 318 ] فصل . في دلائل النسخ  إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان ، ولم يمكن استعمالهما  استدل على نسخ أحدهما بأمور : أحدها : اقتضاء اللفظ له ، بأن يعلم تقدم أحد الحكمين على الآخر ، فيكون المتقدم منسوخا ، والمتأخر ناسخا . قال الماوردي    : المراد بالتقدم التقدم في التنزيل ، لا التلاوة ، فإن العدة بأربعة أشهر سابقة في التلاوة على العدة بالحول ، مع أنها ناسخة لها ، واقتضاء اللفظ إما بالتصريح كقوله : { الآن خفف الله عنكم    } فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة بقوله : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم    } فإنه يقتضي نسخ الإمساك بعد الفطر ، وقوله : { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات    } الآية فإنه يقتضي نسخ الصدقة عند المناجاة ، وإما بأن يذكر لفظ يتضمن التنبيه على النسخ ، كما نسخ الإمساك في البيوت حد الزنى بقوله : { أو يجعل الله لهن سبيلا    } فنبه على عدم الاستدامة في الإمساك ، ولذلك قال : { خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا   } ، وإما بالاستدلال بأن تكون إحدى الآيتين مكية ، والأخرى مدنية فعلم أن المنزل بالمدينة  ناسخ للمنزل بمكة    . قاله  أبو إسحاق المروزي  وغيره . 
الثاني : بقوله عليه السلام : هذا ناسخ أو ما في معناه ، كقوله : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها   } . 
الثالث : فعل النبي صلى الله عليه وسلم كرجم ماعز  ، ولم يجلده ، يدل على أن قوله : { الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة   } منسوخ ، ذكره  [ ص: 319 ] ابن السمعاني  ، ثم قال : وقد قالوا : إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين ، وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول ، فيكون القول منسوخا بمثله من القول ، لكن فعله بين ذلك القول . 
الرابع : إجماع الصحابة ، كنسخ رمضان صوم يوم عاشوراء  ، ونسخ الزكاة سائر الحقوق في المال ، ذكره ابن السمعاني  أيضا ، وكذا حديث : { من غل صدقته ، فإنا آخذوها وشطر ماله   } واتفقت الصحابة على ترك استعمالهم هذا ، فدل عدولهم عنه على نسخه . انتهى . وقد نص  الشافعي  على ذلك أيضا ، فيما نقله  البيهقي  في المدخل ، فقال : ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر - عن الرسول - آخر مؤقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر ، أو بقول من سمع الحديث أو العامة . انتهى . وجرى عليه  أبو إسحاق المروزي  في " الناسخ " من كتابه ، والشيخ  في " اللمع " ، وسليم  في " التقريب " ، والماوردي  في " الحاوي " ، وقال : يكون الإجماع مبينا لا ناسخا . وكذا قال القاضي    : يستدل بالإجماع على أن معه خبرا به وقع النسخ ، لأن الإجماع لا ينسخ . ولم يجعل الصيرفي   [ ص: 320 ] الإجماع دليلا على تعيين النص للنسخ ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط ، فإنه قال في كتابه : فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط ، والأمر ثابت . انتهى . 
ومعنى قوله : أو غلط ، أي من جهة بعض رواته ، كما صرح به  القفال الشاشي  في كتابه ، فقال : إذا روي حديث والإجماع على خلافه  دل على أن الخبر منسوخ أو غلط من الراوي . هذا لفظه . والتحقيق أن الإجماع لا ينسخ به  ، لأنه لا ينعقد إلا بعد الرسول ، وبعده يرتفع النسخ ، وإنما النسخ يرفع بدليل الإجماع ، وعلى هذا ينزل نص  الشافعي  والأصحاب . 
الخامس : نقل الراوي الصحابي تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر ، إذ لا مدخل للاجتهاد فيه ، كما لو روي أن أحدهما شرع بمكة  ، والآخر بالمدينة  ، أو أحدهما عام بدر والآخر عام الفتح ، فإن وجد مثال هذا فلا بد أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم ، كقول  جابر    : { كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار   } ، وكقول أبي بن كعب    : كان { الماء من الماء   } رخصة في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل ، كذا قاله ابن السمعاني  وغيره ، وهو واضح إن كان الخبران غير متواترين ، أما إذا قال في أحد الخبرين المتواترين : إنه كان قبل الآخر ، ففي قوله خلاف ، وجزم القاضي  في " التقريب " بأنه لا يقبل قوله . ونقله الهندي  عن الأكثرين ، لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد  ، وهو غير جائز ، وقال القاضي عبد الجبار    : يقبل ، وإن لم يقبل المظنون في نسخ العلوم ، إذ الشيء يقبل بطريق الضمن والتبع ، ولا يقبل بطريق الأصالة ، كما تقبل شهادة القابلة بالولادة ، ويتضمن ذلك ثبوت النسب وإن كن لو شهدن بالنسب ابتداء لم يقبل . 
وقال أبو الحسين البصري    : هذا يقتضي الجواز العقلي في قبوله لا في وقوعه ، ما لم يثبت أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر ، والجواز العقلي لا نزاع فيه ، ثم قال القاضي  في " التقريب " : لا فرق في ثبوت النسخ  [ ص: 321 ] بالمتأخر بين أن يكون [ الراوي ] للحديثين واحدا أو اثنين لأنه قد يسمعهما الاثنان في وقتين وكذلك الواحد ، وشرط ابن السمعاني  كون الراوي لهما واحدا ، قال : فإن كان راوي المتقدم غير راوي المتأخر نظر ، فإن كان المتأخر خبر واحد كان ناسخا للمتقدم ، وإن كان المتقدم من أخبار المتواتر ، لم يصر منسوخا بخبر الواحد المتأخر ، وإن كانا متواترين أو آحادا ، فالمتأخر ناسخ للمتقدم . 
هذا كله إن أخبر أن هذا متأخر ، فإن قال : هذا ناسخ نظر ، فإن كان ذكر دليله فواضح . قاله ابن السمعاني    . وقال القاضي    : لا يثبت به النسخ عند الجمهور ، ولو ذكر دليله ، لكن ينظر فيه ، فإن اقتضى النسخ عمل به ، وإلا فلا ، وإن أرسله إرسالا ، ففيه وجهان ، حكاهما ابن السمعاني  أحدهما : يقبل قوله في النسخ ، ونقله عن  الكرخي    . قلت : والذي في " المعتمد " أن أبا عبد الله البصري  حكى عن شيخه  أبي الحسن الكرخي  أنه إن عينه ، فقال : هذا نسخ لهذا ، لم يرجع إليه ، لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد ، وإن لم يعينه بل قال : هذا منسوخ قبل . 
وحكى الدبوسي  في " التقويم " هذا التفصيل عن أبي عبد الله البصري  ، ثم قال : ومنهم من قال : لا فرق بينهما . 
والثاني : أنه لا يقبل قوله في النسخ ما لم يذكر دليله ، لجواز أن يعتقد ما ليس بنسخ نسخا ، ولأن العلماء مختلفون في أسباب النسخ كالزيادة على النص ، والنقصان منه ، وكاعتقاد آخرين أن قوله : { إذا التقى الختانان   } منسوخ بقوله : { إنما الماء من الماء   } ونحو ذلك ، ولذلك لم يقبل قول من  [ ص: 322 ] قال : إن مسح الخف نسخ بالكتاب . وهذا ما نقله القاضي  في " التقريب " عن الجمهور ، وقال : إنه الصحيح ، وعلله بما ذكرنا . وقال ابن السمعاني    : إنه أظهر الوجهين ، وكذا صححه في " اللمع " ، وسليم  ، وصرح ابن برهان  بأنه المذهب ، فقال في كتابه " الأوسط " : إذا قال الصحابي هذا منسوخ لم يقبل منه عندنا خلافا للحنفية ، لأن مذاهب الناس في النسخ مختلفة ، فرب شيء يعتقده ناسخا ، وليس بناسخ ، ولأن النسخ إسقاط للحديث بالكلية . 
وجزم به الغزالي  في المستصفى ، وإلكيا  في " التلويح " وعلله بما سبق ، ثم قال : فأما إذا قال الصحابي : إن كذا كان حكما ثابتا من قبل ، وإنه نسخ الآن ، ولم يذكر ما به نسخ ، فإن  الكرخي  كان يتابعه ، كقول  ابن مسعود  حين ذكر له في التشهد : التحيات الزاكيات . قال : كان هذا ثم نسخ . ونحوه ما روي عن  ابن عمر  ،  وابن عباس  في الرضاع أنهما قالا : قد كان التوقيت ، وأما الآن فلا . 
قال : والذي رآه أكثر الأصوليين أنه لا يرجع إلى قول الصحابي في ذلك ، لأنه إذا كان فيما صرح به بأنه ناسخا للأية أن لا يكون ناسخا لها في الحقيقة ، وإن اعتقده فغير ممتنع أن يطلق ذلك إطلاقا ، ولا يذكر ما لأجله النسخ ، ولو ذكره لكان مما لا ينسخ به . قال : نعم ، ولو علم من حاله أنه إنما ذكر أنه منسوخ لأمر لا يلتبس ، وجب الرجوع إلى قوله . قال : وهذا قريب من مخالفة الراوي مضمون الحديث الذي رواه انتهى . وهذا تفصيل حسن . وفصل بعض المتأخرين من الحنابلة بين أن يكون هناك نص آخر يخالف  [ ص: 323 ] ما ادعى نسخه ، فإنه يقبل قوله ، لأن الظاهر أن ذلك النص الناسخ ، ويكون حاصل الصحابي الإعلام بالمتقدم والمتأخر ، وقوله يقبل في ذلك . قال : ونقل  القاضي أبو يعلى  عن  أحمد  أنه أومأ إلى أن الصحابي إذا قال : هذه الآية منسوخة ، لم يصر إلى قوله حتى يبين الناسخ . 
وقال عبد الوهاب  في " الملخص " إذا قال الصحابي : هذا منسوخ ، فقيل : يقبل مطلقا وقيل بالمنع . وقيل : إن أطلق قبل . وإن أضافه إلى ناسخ زعم أنه الذي نسخه ، نظر فيه ، فإن كان مما يوجب النسخ حكم به ، وإلا فلا . قال : ولست أحفظ في هذا عن أصحابنا شيئا ، ولكن عندي إن كان في معنى النسخ وصفته ، وليس فيه خلاف بين الصحابة ، فالواجب أن يخرج فيه قولان ، وإن لم يكن بينهم خلاف في صفة النسخ وشروطه وجب قبوله . انتهى . 
وأطلق  الأستاذ أبو منصور  النسخ بقول الصحابي ، وكذا  القاضي أبو الطيب  في مسألة قول الراوي : أمرنا ، وجرى عليه المحدثون ، ومنهم  ابن الصلاح  ، وهو ظاهر نص  الشافعي  السابق ذكره في الإجماع ، وقد احتج أصحابنا بقول عائشة  في الرضعات إن العشر منها نسخن بالخمس ، واحتجوا على أن قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد    } منسوخ بقوله : { إنا أحللنا لك    } لأجل قول عائشة    : { ما مات الرسول حتى أحل الله له النساء اللاتي حظرن عليه   } . لكن أجاب القاضي  عن هذا بأنهم لم ينسخوا بقول  عائشة  ، بل بحجتها في النسخ ، فلأجل الآية والتأول لها قالوا وقالت ذلك .  [ ص: 324 ] ووراء ذلك أمور : أحدها : أن يقول الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نسخت عنكم كذا . قال القاضي    : ويجب قبوله إذا كان المنسوخ من غير الآحاد ، فإن كان مما يوجب العلم ، لم يرفع مثل هذا ، إلا أن ينضم ما يوجب القطع . 
الثاني : هذا كله إذا صرح بالنسخ قياسا ، وأما إذا قال قولا يخالف الحديث ، فلا يقتضي نسخ النص سواء انتشر أم لا . قاله القاضي  أيضا . قال : ومن جعل قوله حجة إذا انتشر ، ولم يحفظ له مخالف ترك به حكم النص ، وتبين عنده أنه منسوخ ، لأنه إجماع . 
الثالث : إذا كان راوي أحدهما متقدم الصحبة ، والآخر متأخرا ، فقسمه ابن السمعاني  إلى قسمين أحدهما : أن تنقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني ، فيكون الحكم الذي رواه المتأخر ناسخا للذي رواه الأول كرواية قيس بن طلق  ،  وأبي هريرة  في مس الذكر . 
والثاني : أن لا تنقطع صحبة المتقدم عند صحبة المتأخر ، فلا تكون رواية المتأخر الصحبة ناسخة لرواية المتقدم ، لجواز أن يكون المتقدم راويا لما تأخر ، كما لا يجوز أن يكون راويا لما تقدم ، وإثبات النسخ بمجرد الاحتمال ممتنع ، كرواية  ابن عباس  ،  وابن مسعود  في التشهد ، فلا تكون رواية  ابن عباس  ناسخة لرواية  ابن مسعود  ، ولكن يطلب الترجيح من خارج . ا هـ . والقسم الأول ذكره إلكيا  ، وصاحب " المصادر " ومثلا به ، وجزما  [ ص: 325 ] به ، لكن القاضي  خالفهم . قال في " المصادر " : وشرط الشريف المرتضى  في ذلك أن يكون الذي صحبه آخرا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبل صحبته له ، لأنه لا يمتنع أن يراه أولا ويسمع منه ، وهو مصاحب له ، ثم رآه ثانيا ويختص به . 
والقسم الثاني ذكره الشيخ  في " اللمع " ، وجزم بعدم النسخ ، وكذا الهندي  ، قال : ومن هذا يعلم أنه لا يثبت النسخ بكون راوي أحد الخبرين من أحداث الصحابة ، أو يكون إسلامه متأخرا عن إسلام راوي الآخر ، وبذلك صرح القاضي  في " التقريب " . وأطلق  الأستاذ أبو منصور  ، وابن برهان  أن رواية المتأخر صحبة ناسخة لرواية المتقدم . 
الرابع : أن يكون الراوي لأحدهما أسلم بعد موت الآخر ، أو بعد قصته ، وفيه احتمالان للشيخ  في " اللمع " ، وجزم سليم  في صورة الموت بأن رواية المتأخر ناسخة . 
الخامس : معرفة التاريخ للواقعتين ، كحديث شداد بن أوس  أنه قال : { أفطر الحاجم والمحجوم   } . قال الشاشي    : هو منسوخ بحديث  ابن عباس    : { احتجم وهو محرم صائم   } . أخرجه  مسلم    . فإن  ابن عباس  إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر ، وفي بعض طرق حديث شداد  أن ذلك كان في زمن الفتح ، وذلك سنة ثمان . 
السادس : كون أحد الحكمين شرعيا ، والآخر موافقا للعادة ، فيكون  [ ص: 326 ] الشرعي ناسخا للمعتاد ، كخبر مس الفرج . ذكره  الأستاذ أبو منصور  وغيره ، ومنعه القاضي  ، والغزالي    . لأنه يجوز ورود الشرع بتقرير الوصف ، ثم يرد نسخه ، ورده إلى ما كان في العقل ، فإن الموافق للعقل لم يرد بعد نقل حكمه . 
وقال الماوردي  في " الحاوي " : دلائل النسخ يقدم أحدها على الآخر ، فإن جهل عدل إلى الثاني وهو بيان الرسول ، فإن ثبت عنه عمل به ، وكانت السنة مبينة لا ناسخة ، فإن عدم عدل إلى الثالث ، وهو الإجماع ، فإن فقد عدل إلى الرابع ، وهو الاستعمال ، فإذا كان أحدهما مستعملا والآخر متروكا ، كان المستعمل ناسخا ، والمتروك منسوخا ، فإن فقد عدل إلى الخامس ، وهو الترجيح بشواهد الأصول والأدلة وكان غاية العمل به . 
وما ذكره في الرابع ينازعه قول الصيرفي    : إذا وجد حكمان متماثلان ، وأحدهما منسوخ لم يحكم بأن السابق منهما نسخ بالآخر ، وذلك كصوم عاشوراء مع صوم رمضان ، جاء أنه لما نزل فرض رمضان نسخ صوم عاشوراء ، فنقول : اتفق نسخه عند ثبوت فرض رمضان ، لا أنه نسخه ، لأنه غير مناف له ، وحكاه سليم  أيضا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					