( المسألة الرابعة )
nindex.php?page=treesubj&link=28752_25582الفرق بين المعجزات في النبوات وبين السحر وغيره مما يتوهم أنه من خوارق العادات :
[ ص: 168 ] هذه مسألة عظيمة الوقع في الدين ، وأشكلت على جماعة من الأصوليين والتبست على كثير من الفضلاء المحصلين والفرق بينهما من ثلاثة أوجه فرق في نفس الأمر باعتبار الباطن وفرقان باعتبار الظاهر أما الفرق الواقع في نفس الأمر فهو أن السحر والطلمسات والسيمياء وهذه الأمور ليس فيها شيء خارق للعادة بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس بل للقليل منهم كالعقاقير التي تعمل منها الكيمياء والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون والصخور ، والدهن الذي من ادهن به لم يقطع فيه حديد والسمندل والحيوان الذي لا تعدو عليه النار ، ولا يأوي إلا فيها هذه كلها ونحوها في العالم أمور غريبة قليلة الوقوع وإذا وجدت أسبابها وجدت على العادة فيها ، وكذلك إذا وجدت أسباب السحر الذي أجرى الله به العادة حصل وكذلك السيمياء وغيرها كلها جارية على أسباب عادية غير أن الذي يعرف تلك الأسباب قليل من الناس أما المعجزات فليس لها سبب في العادة أصلا فلا يجعل الله تعالى في العالم عقارا يفلق البحر أو يسير الجبال في الهوى ونحو ذلك فنحن نريد بالمعجزة ما خلق الله تعالى في العالم عند تحدي الأنبياء على هذا الوجه وهنا فرق عظيم .
غير أن الجاهل بالأمرين يقول ، وما يدريني أن هذا لا سبب له من جهة العادة فيقال له الفرقان الأخيران
[ ص: 169 ] يذهبان عنك هذا اللبس :
الفرق الأول منهما : أن السحر وما يجري مجراه يختص بمن عمل له حتى أن أهل هذه الحرف إذا استدعاهم الملوك والأكابر ليبينوا لهم هذه الأمور على سبيل التفرج يطلبون منهم أن تكتب أسماء كل من يحضر ذلك المجلس فيصنعون صنعهم لمن يسمى لهم فإن حضر غيرهم لا يرى شيئا مما رآه الذين سموا أولا ، قال العلماء : وإليه الإشارة بقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=108ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } ينظر إليها على الإطلاق ففارقت بذلك السحر والسيمياء ، وهذا فرق عظيم يظهر للعالم والجاهل .
الفرق الثاني من الفرقين : الظاهر من قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي الضروري المحتفة بالأنبياء عليهم السلام المفقودة في حق غيرهم فنجد النبي عليه الصلاة والسلام أفضل الناس نشأة ومولدا ، ومزية وخلقا وخلقا وصدقا
[ ص: 170 ] وأدبا ، وأمانة وزهادة ، وإشفاقا ورفقا وبعدا عن الدناءات والكذب والتمويه {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124الله أعلم حيث يجعل رسالته } ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحارا في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة حتى يروى أن
عليا رضي الله عنه جلس عند
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما يتكلم في الباء من بسم الله من العشاء إلى أن طلع الفجر مع أنهم لم يدرسوا ورقة ، ولا قرءوا كتابا ، ولا تفرغوا من الجهاد وقتل الأعداء ومع ذلك فإنهم كانوا على هذه الحالة ببركته صلى الله عليه وسلم حتى قال بعض الأصوليين لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته وكذلك ما علم من فرط صدقه الذي جزم به أولياؤه ، وأعداؤه ، وكان يسمى في صغره الأمين إلى غير ذلك مما هو مبسوط في موضعه فمن وقف على هذه القرائن وعرفها من صاحبها جزم بصدقه فيما يدعيه جزما قاطعا وجزم بأن هذه الدعوى حق ولذلك {
لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بنبوته قال له الصديق صدقت } من غير احتياج إلى معجزة خارقة فنزل فيهما قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=33والذي جاء بالصدق وصدق به } أي
محمد جاء بالصدق
، وأبو بكر صدق به فما من نبي إلا وله من هذه القرائن الحالية والمقالية العجائب والغرائب .
وأما الساحر فعلى العكس من ذلك كله لا تجده في موضع إلا ممقوتا حقيرا بين الناس ، وأصحابه
[ ص: 171 ] وأتباعه وأتباع كل مبطل عديمين للطلاوة لا بهجة عليهم والنفوس تنفر منهم ، ولا فيهم من نوافل الخير والسعادة أثر فهذه فروق ثلاثة بين البابين وهي في غاية الظهور لا يبقى معها - ولله الحمد - لبس ولا شك لجاهل ، ولا عالم .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ )
nindex.php?page=treesubj&link=28752_25582الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ :
[ ص: 168 ] هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ فِي الدِّينِ ، وَأَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْتَبَسَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْمُحَصِّلِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ وَفَرْقَانِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَمَّا الْفَرْقُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ أَنَّ السِّحْرَ وَالطَّلْمَسَاتِ وَالسِّيمِيَاءَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بَلْ هِيَ عَادَةٌ جَرَتْ مِنْ اللَّهِ بِتَرْتِيبِ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لَمْ تَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ لِلْقَلِيلِ مِنْهُمْ كَالْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْهَا الْكِيمْيَاءُ وَالْحَشَائِشِ الَّتِي يُعْمَلُ مِنْهَا النَّفْطُ الَّذِي يُحْرِقُ الْحُصُونَ وَالصُّخُورَ ، وَالدُّهْنُ الَّذِي مَنْ ادَّهَنَ بِهِ لَمْ يَقْطَعْ فِيهِ حَدِيدٌ وَالسَّمَنْدَلُ وَالْحَيَوَانُ الَّذِي لَا تَعْدُو عَلَيْهِ النَّارُ ، وَلَا يَأْوِي إلَّا فِيهَا هَذِهِ كُلُّهَا وَنَحْوُهَا فِي الْعَالَمِ أُمُورٌ غَرِيبَةٌ قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ وَإِذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وُجِدَتْ عَلَى الْعَادَةِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُ السِّحْرِ الَّذِي أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ حَصَلَ وَكَذَلِكَ السِّيمِيَاءُ وَغَيْرُهَا كُلُّهَا جَارِيَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ أَمَّا الْمُعْجِزَاتُ فَلَيْسَ لَهَا سَبَبٌ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا فَلَا يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ عَقَارًا يَفْلِقُ الْبَحْرَ أَوْ يُسَيِّرُ الْجِبَالَ فِي الْهَوَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نُرِيدُ بِالْمُعْجِزَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُنَا فَرْقٌ عَظِيمٌ .
غَيْرَ أَنَّ الْجَاهِلَ بِالْأَمْرَيْنِ يَقُولُ ، وَمَا يُدْرِينِي أَنَّ هَذَا لَا سَبَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ فَيُقَالُ لَهُ الْفَرْقَانِ الْأَخِيرَانِ
[ ص: 169 ] يُذْهِبَانِ عَنْك هَذَا اللَّبْسَ :
الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا : أَنَّ السِّحْرَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ حَتَّى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْحِرَفِ إذَا اسْتَدْعَاهُمْ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَرُّجِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاءُ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ فَيَصْنَعُونَ صُنْعَهُمْ لِمَنْ يُسَمَّى لَهُمْ فَإِنْ حَضَرَ غَيْرُهُمْ لَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا رَآهُ الَّذِينَ سُمُّوا أَوَّلًا ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=108وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } يَنْظُر إلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَفَارَقَتْ بِذَلِكَ السِّحْرَ وَالسِّيمِيَاءَ ، وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ يَظْهَرُ لِلْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ .
الْفَرْقُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقَيْنِ : الظَّاهِرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الضَّرُورِيِّ الْمُحْتَفَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ الْمَفْقُودَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَنَجِدُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلَ النَّاسِ نَشْأَةً وَمَوْلِدًا ، وَمَزِيَّةً وَخَلْقًا وَخُلُقًا وَصِدْقًا
[ ص: 170 ] وَأَدَبًا ، وَأَمَانَةً وَزَهَادَةً ، وَإِشْفَاقًا وَرِفْقًا وَبُعْدًا عَنْ الدَّنَاءَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّمْوِيهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ثُمَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا بِحَارًا فِي الْعُلُومِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعُلُومِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَسَ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَكَلَّمُ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ مِنْ الْعِشَاءِ إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْرُسُوا وَرَقَةً ، وَلَا قَرَءُوا كِتَابًا ، وَلَا تَفَرَّغُوا مِنْ الْجِهَادِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةٌ إلَّا أَصْحَابُهُ لَكَفَوْهُ فِي إثْبَات نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ فَرْطِ صِدْقِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ ، وَأَعْدَاؤُهُ ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي صِغَرِهِ الْأَمِينُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَعَرَفَهَا مِنْ صَاحِبِهَا جَزَمَ بِصِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ جَزْمًا قَاطِعًا وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى حَقٌّ وَلِذَلِكَ {
لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِنُبُوَّتِهِ قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ صَدَقْتَ } مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=33وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أَيْ
مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالصِّدْقِ
، وَأَبُو بَكْرٍ صَدَّقَ بِهِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ .
وَأَمَّا السَّاحِرُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ إلَّا مَمْقُوتًا حَقِيرًا بَيْنَ النَّاسِ ، وَأَصْحَابَهُ
[ ص: 171 ] وَأَتْبَاعَهُ وَأَتْبَاعَ كُلِّ مُبْطِلٍ عَدِيمِينَ لِلطَّلَاوَةِ لَا بَهْجَةَ عَلَيْهِمْ وَالنُّفُوسُ تَنْفِرُ مِنْهُمْ ، وَلَا فِيهِمْ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ أَثَرٌ فَهَذِهِ فُرُوقٌ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَهِيَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لَا يَبْقَى مَعَهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَبْسٌ وَلَا شَكٌّ لِجَاهِلٍ ، وَلَا عَالِمٍ .