( الفرق السابع والأربعون والمائتان بين قاعدة الإتلاف بالصيال وبين قاعدة الإتلاف بغيره ) اعلم أن الصيال يختص بنوع من إسقاط اعتبار إتلافه بسبب عداه وعدوانه ويقوى الضمان في غيره على متلفه لعدم المسقط ، وله خصيصة أخرى ، وهي أن الساكت عن الدفع عن نفسه حتى يقتل لا يعد آثما ، ولا قاتلا لنفسه بخلاف لو منع من نفسه طعامها وشرابها حتى مات فإنه آثم قاتل لنفسه ، ولو لم يمنع عنها الصائل من الآدميين لم يأثم بذلك وبسط ذلك أن كل إنسان أو غيره صال فدفع عن معصوم من نفس أو بضع أو مال دفعا لا يقصد قتله بل الدفع خاصة ، وإن أدى إلى القتل إلا أن يعلم أنه لا يندفع إلا بالقتل فيقصد قتله ابتداء لتعينه طريقا إلى الدفع فمن خشي شيئا من ذلك فدفعه عن نفسه فهو هدر لا يضمن حتى الصبي والمجنون ، وكذلك [ ص: 184 ] البهيمة لأنه ناب عن صاحبها في دفعها وهو سر الفرق بين القاعدتين فإن المتلف ابتداء لم ينب عن غيره في القيام بذلك الإتلاف قال القاضي أبو بكر : أعظم المدفوع عنه النفس ، وأمره بيده إن شاء أسلم نفسه أو دفع عنها ويختلف الحال ففي زمن الفتنة الصبر أولى تقليلا لها أو هو يقصد وحده من غير فتنة عامة فالأمر في ذلك سواء ، وإن عض الصائل يدك فنزعتها من فيه فقلعت أسنانه ضمنت دية الأسنان ؛ لأنها من فعلك وقيل لا تضمن ؛ لأنه ألجأك لذلك ، وإن نظر إلى حرم من كوة لم يجز لك أن تقصد عينه أو غيرها ؛ لأنه لا تدفع المعصية بالمعصية ، وفيه القود إن فعلت ويجب تقدم الإنذار في كل موضع فيه دفع ومستند ترك الدفع عن النفس ما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل } ولقصة ابني آدم { إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } ثم قال : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } ولم يدفعه عن نفسه لما أراد قتله وعلى ذلك اعتمد عثمان رضي الله عنه على أحد الأقوال ؛ ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل أو يمكن من القتل ، والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا فهذا أقرب الفروق بين القاعدتين .
والفرق بين ترك دفع الصائل ، وبين ترك الغذاء والشراب حتى يموت أن ترك الغذاء هو السبب العام في الموت لم يضف إليه غيره ، ولا بد أن يضاف فعل [ ص: 185 ] الصائل للتمكين والفرق بين ترك الغذاء أنه يحرم وبين ترك الدواء فلا يحرم أن الدواء غير منضبط النفع فقد يفيد وقد لا يفيد والغذاء ضروري النفع ، ووافقنا الشافعي أنه لا يضمن الفحل الصائل والمجنون والصغير وقال أبو حنيفة : يباح له الدفع ويضمن واتفقوا إذا كان آدميا بالغا عاقلا أنه لا يضمن . لنا وجوه : الأول أن الأصل عدم الضمان . الثاني القياس على الآدمي . الثالث القياس على الدابة المعروفة بالأذى أنها تقتل ، ولا تضمن إجماعا ، ولا يلزمنا إذا غصبه فصال عليه ؛ لأنه ضمن هنالك بالغصب لا بالدفع ، وإلا إذا اضطر له لجوع فأكله فإنه يضمن ؛ لأن الجوع القاتل في نفس الجامع لا في نفس الصائل والقتل بالصيال من جهة الصائل احتجوا بوجوه الأول أن مدرك عدم الضمان إنما هو إذن المالك لا جواز الفعل ؛ لأنه لو أذن له في قتل عبده لم يضمن ، ولو أكله لمجاعة ضمنه . الثاني أن الآدمي له قصد واختيار فلذلك لم يضمن والبهيمة لا اختيار لها ؛ لأنه لو حفر بئرا فطرح إنسان نفسه فيها لم يضمنه ، ولو طرحت بهيمة نفسها فيها ضمنت وجناية العبد تتعلق برقبته وجناية البهيمة لا تتعلق برقبتها . الثالث قوله عليه السلام { جرح العجماء جبار } فلو لم يضمن لم يكن جبارا كالآدمي والجواب عن الأول أن الضمان يتوقف على عدم جواز الفعل بدليل أن الصيد إذا صال على محرم لم يضمنه أو صال على العبد سيده فقتله العبد أو الأب على ابنه فقتله ابنه لا يضمنون لجواز الفعل وعن الثاني أن البهيمة لها اختيار اعتبره الشرع ؛ لأن الكلب لو [ ص: 186 ] استرسل بنفسه لم يؤكل صيده ، والبعير الشارد يصير حكمه حكم الصيد على أصلهم ، وإن فتح قفصا فيه طائر فقعد الطائر ساعة ثم طار لا يضمن ؛ لأنه طار باختياره ، وأما قولهم في الآدمي لو طرح نفسه في البئر لم يضمن بخلاف البهيمة فيلزمهم أنه لو نصب شبكة فوقعت فيها بهيمة لم يضمنها ؛ لأنها لم تختر ذلك ، وأنه لم يختره ، وأما تعليق الجناية برقبة العبد فتبطل بالعبد الصغير فإنه تتعلق الجناية برقبته مع مساواته للدابة في الضمان ، وعن الثالث أن الهدر يقتضي عدم الضمان مطلقا .


