( المسألة الثالثة ) اختلف الفقهاء في أول العصر الذي
[ ص: 220 ] أدركته
nindex.php?page=treesubj&link=18604هل يدخل الورع والزهد في المباحات أم لا فادعى ذلك بعضهم ، ومنعه بعضهم ، وضيق بعضهم على بعض وأكثروا التشنيع فقال
الأبياني في مصنفه : لا يدخل الورع فيها ؛ لأن الله - تعالى - سوى بين طرفيها ، والورع مندوب إليه ، والندب مع التسوية متعذر ، وقال
الشيخ بهاء الدين الحميري : يدخل الورع في المباحات ، وما زال السلف الصالح على الزهد في المباحات ، ويدل على ذلك قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } وغيره من النصوص ، وكل من الشيخين على الحق والصواب ؛ إذ لم يتواردا على محل واحد في الكلام ، والجمع بينهما أن المباحات لا زهد فيها ، ولا ورع فيها من حيث هي مباحات ، وفيها الزهد والورع من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات ، وقد يوقع في المحرمات ، وكثرة المباحات أيضا تفضي إلى بطر النفوس فإن كثرة العبيد والخيل والخول والمساكن العلية والمآكل الشهية والملابس اللينة لا يكاد يسلم صاحبها من الإعراض عن مواقف العبودية والتضرع لعز الربوبية كما يفعل ذلك الفقراء أهل الحاجات والفاقات والضرورات ، وما يلزم قلوبهم من الخضوع والذلة لذي الجلال وكثرة السؤال من نواله وفضله آناء الليل وأطراف النهار ؛ لأن أنواع الضرورات تبعث على ذلك قهرا ، والأغنياء بعيدون عن هذه الخطة فكان الزهد والورع في المباحات من هذا الوجه لا من جهة أنها مباحات ، ويدل على اعتبار ما تقدم قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=6كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى }
[ ص: 221 ] وقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } أي من أجل أن أعطاه الله الملك فلو كان
النمرود فقيرا حقيرا مبتلى بالحاجات والضرورات لم تحتد نفسه إلى منازعة
إبراهيم ودعواه الإحياء أو الإماتة ، وتعرضه لإحراق
إبراهيم عليه السلام بالنيران ، وإنما وصل إلى هذه المعاطب والمهالك بسبب أنه ملك ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=111قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وفي الأنبياء الآية الأخرى {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=27وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } فحصل من ذلك أن اتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمبادرين إلى تصديقهم إنما هم الفقراء والضعفاء ، وأعداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومعاندوهم هم الأغنياء لقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } وفي الآية الأخرى {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34إلا قال مترفوها } ولم يقل إلا قال فقراؤها فهذه سنة الله - تعالى - في خلقه أن الأكثرين في هذه الدار هم الأقلون في تلك الدار ، والأقلون في هذه الدار هم الأكثرون في تلك الدار فهذا وجه ما كان السلف يعتمدونه من الزهد والورع في المباحات ، وهو وجه لزوم الذم المفهوم من قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } فهذا وجه الجمع بين القولين
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ الْعَصْرِ الَّذِي
[ ص: 220 ] أَدْرَكْته
nindex.php?page=treesubj&link=18604هَلْ يَدْخُلُ الْوَرَعُ وَالزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ فَقَالَ
الْأَبْيَانِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ : لَا يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا ، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَالَ
الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ : يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَغَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ ، وَكُلٌّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ؛ إذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلَامِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا زُهْدَ فِيهَا ، وَلَا وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ يَحُوجُ إلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تُفْضِي إلَى بَطَرِ النُّفُوسِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَالْخَوَلِ وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ اللَّيِّنَةِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْلُ الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا ، وَالْأَغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ فَكَانَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=6كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى }
[ ص: 221 ] وقَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ
النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إلَى مُنَازَعَةِ
إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ أَوْ الْإِمَاتَةَ ، وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّيرَانِ ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=111قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ } وَفِي الْأَنْبِيَاءِ الْآيَةُ الْأُخْرَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=27وَمَا نَرَاك اتَّبَعَك إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُبَادِرِينَ إلَى تَصْدِيقِهِمْ إنَّمَا هُمْ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ ، وَأَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَانِدُوهُمْ هُمْ الْأَغْنِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قَالَ فُقَرَاؤُهَا فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ ، وَالْأَقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ