( الفرق السابع والخمسون والمائتان بين ) قاعدة التوكل وبين قاعدة ترك الأسباب
اعلم أنه قد التبس هاتان القاعدتان على كثير من الفقهاء والمحدثين في علم الرقائق فقال قوم : لا يصح التوكل إلا مع ترك الأسباب ، والاعتماد على الله - تعالى - قاله الغزالي في إحياء علوم الدين وغيره [ ص: 222 ] وقال آخرون : لا ملازمة بين التوكل وترك الأسباب ، ولا هو هو وهذا هو الصحيح ؛ لأن التوكل هو اعتماد القلب على الله - تعالى - فيما يجلبه من خير ، أو يدفعه من ضر ، قال المحققون : والأحسن ملابسة الأسباب مع التوكل للمنقول والمعقول ، أما المنقول فقوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } فأمر بالاستعداد مع الأمر بالتوكل في قوله تعالى { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقوله تعالى { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } أي تحرزوا منه فقد أمر باكتساب التحرز من الشيطان كما يتحرز من الكفار ، وأمر - تعالى - بملابسة أسباب الاحتياط والحذر من الكفار في غير ما موضع من كتابه العزيز ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين وكان يطوف على القبائل ويقول من يعصمني حتى أبلغ رسالة ربي .
وكان له جماعة يحرسونه من العدو حتى نزل قوله تعالى { والله يعصمك من الناس } ودخل مكة مظاهرا بين درعين في كتيبته الخضراء من الحديد ، وكان في آخر عمره وأكمل أحواله مع ربه - تعالى - يدخر قوت سنة لعياله ، وأما المعقول فهو أن الملك العظيم إذا كانت له جماعة ، ولهم عوائد في أيام لا يحسن إلا فيها أو أبواب لا تخرج إلا منها ، أو أمكنة لا يدفع إلا فيها فالأدب معه أن لا يطلب منه فعل إلا حيث عوده ، وأن لا يخالف عوائده بل يجري عليها ، والله - تعالى - ملك الملوك وأعظم العظماء بل أعظم من ذلك رتب ملكه على عوائد أرادها ، وأسباب قدرها ، وربط بها آثار قدرته ، ولو شاء لم يربطها [ ص: 223 ] فجعل الري بالشرب ، والشبع بالأكل ، والاحتراق بالنار والحياة بالتنفس في الهواء فمن طلب من الله - تعالى - حصول هذه الآثار بدون أسبابها فقد أساء الأدب مع الله - سبحانه وتعالى - بل يلتمس فضله في عوائده ، وقد انقسمت الخلائق في هذا المقام ثلاثة أقسام قسم عاملوا الله - تعالى - باعتماد قلوبهم على قدرته - تعالى - مع إهمال الأسباب والعوائد فلججوا في البحار في زمن الهول وسلكوا القفار العظيمة المهلكة بغير زاد إلى غير ذلك من هذه التصرفات ، فهؤلاء حصل لهم التوكل وفاتهم الأدب مع الله - تعالى - وهم جماعة من العباد أحوالهم مسطورة في الكتب في الرقائق ، وقسم لاحظوا الأسباب ، وأعرضوا عن التوكل ، وهم عامة الخلق وشر الأقسام ، وربما وصلوا بملاحظة الأسباب والإعراض عن المسبب إلى الكفر ، والقسم الثالث اعتمدت قلوبهم على قدرة الله - تعالى - طلبوا فضله في عوائده ملاحظين في تلك الأسباب مسببها وميسرها فجمعوا بين التوكل والأدب وهؤلاء النبيون والصديقون ، وخاصة عباد الله - تعالى .
والعارفون بمعاملته جعلنا الله - تعالى - منهم بمنه وكرمه فهؤلاء هم خير الأقسام الثلاثة ، والعجب ممن يهمل الأسباب ويفرط في التوكل بحيث يجعله عدم الأسباب أو من شرطه عدم الأسباب إذا قيل : الإيمان سبب لدخول الجنة والكفر سبب لدخول النار بالجعل الشرعي كسائر الأسباب فهل هو تارك هذين السببين أو معتبرهما فإن ترك اعتبارهما خسر الدنيا ، وإن اعتبرهما فقال : لا بد من الإيمان ، وترك الكفر فيقال له : ما بال غيرهما [ ص: 224 ] من الأسباب إن كان هذان لا ينافيان التوكل فغيرهما كذلك نعم من الأسباب ما هو مطرد في مجرى عوائد الله - تعالى - كالإيمان والكفر والغذاء والتنفس وغير ذلك ، ومنها ما هو أكثري غير مطرد لكن الله - تعالى - أجرى فيه عادة من حيث الجملة كالأدوية وأنواع الأسفار للأرباح ونحو ذلك والأدب في الجميع التماس فضل الله - تعالى - في عوائده ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالدواء والحمية واستعمال الأدوية حتى الكي بالنار { سعد } ، وقال عليه السلام { فأمر بكي المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وصلاح كل جسم ما اعتاد } وإذا كان حاله في الأسباب التي ليست مطردة من الحمية وإصلاح البدن بمواظبة عادته فما ظنك بغير ذلك من العوائد ، فهذا هو الحق الأبلج ، والطريق الأنهج
[ ص: 222 - 224 ]