( الفرق الثامن عشر بين قاعدة ما يمكن أن ينوى قربة وقاعدة ما لا يمكن أن ينوى قربة ) أما ما لا يمكن أن ينوى قربة فقسمان : أحدهما النظر الأول المفضي إلى العلم بثبوت صانع العالم فإن هذا النظر انعقد الإجماع على أنه لا يمكن أن ينوى التقرب به فإن قصد التقرب إلى الله تعالى بالفعل فرع اعتقاد وجوده وهو قبل النظر الموصل لذلك لا يعلم ذلك فتعذر عليه القصد للتقرب وهو كمن ليس له شعور بحصول ضيف كيف يتصور منه القصد إلى إكرامه فالنظر الأول يستحيل فيه قصد التقرب وثانيهما فعل الغير تمتنع النية فيه فإن النية مخصصة للفعل ببعض جهاته من الفرض والنفل وغير ذلك من رتب العبادات وذلك يتعذر على الإنسان في فعل غيره بل إنما يتأتى ذلك منه في فعل نفسه [ ص: 130 ] وما عدا هذين القسمين تمكن نيته ثم الذي تمكن نيته منه ما شرعت فيه النية ومنه ما لم تشرع فيه النية ثم انقسمت الشرعية بعد ذلك إلى مطلوب وغير مطلوب فغير المطلوب لا ينوى من حيث هو غير مطلوب بل يقصد بالمباح التقوي على مطلوب كما يقصد بالنوم التقوي على قيام الليل فمن هذا الوجه تشرع نيته لا من جهة أنه مباح والمطلوب في الشريعة قسمان نواه وأوامر بل يخرج الإنسان من عهدة المنهي عنه بمجرد تركه وإن لم يشعر به فضلا عن القصد إليه نعم إن نوى بتركها وجه الله العظيم حصل له الثواب وصار الترك قربة . فالنواهي لا يحتاج فيها إلى النية شرعا
وأما الأوامر فقسمان أيضا . منها : ما تكون صور أفعالها كافية في تحصيل مصالحها فلا يحتاج إلى النية كدفع الديون ورد المغصوب ونفقات الزوجات والأقارب وعلف الدواب ونحو ذلك فهذا القسم مستغن عن النية شرعا فمن دفع دينه غافلا عن قصد التقرب به أجزأ عنه ولا يفتقر إلى إعادته مرة أخرى نعم إن قصد في هذه الصور كلها امتثال أمر الله تعالى حصل له الثواب وإلا فلا . القسم الثاني : ما لا تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته فهذا القسم هو المحتاج إلى النية كالعبادات فإن الصلاة شرعت لتعظيم الرب تعالى وإجلاله والتعظيم إنما يحصل بالقصد ألا ترى أنك لو صنعت ضيافة لإنسان فأكلها غيره من غير قصدك لكنت معظما للأول دون الثاني بسبب قصدك فما لا قصد فيه لا تعظيم فيه فيلزم أن لأنها إنما شرعت لتعظيم الله تعالى فهذا ضابط ما تمكن فيه النية وما لا تمكن فيه النية وضابط ما يحتاج إلى النية مما يمكن وما لا يحتاج شرعا وهذه المباحث مستوعبة في كتاب الأمنية في إدراك النية ومبسوطة أكثر من هذا وهناك مسائل من هذا الباب كثيرة وها أنا أذيل هذا الفرق بأربع مسائل : العبادات كلها يشترط فيها القصد
( المسألة الأولى ) تقدم أن الإنسان لا ينوي إلا فعل نفسه وما هو مكتسب له وذلك .
[ ص: 131 ] يشكل بأننا ننوي الفرض والنفل مع أن فرضية الظهر مثلا ونفلية الضحى ليستا من فعلنا ولا من كسبنا بل حكمان شرعيان والأحكام الشرعية صفة الله تعالى وكلامه ليست مفوضة للعباد فكيف صحت والجواب عنه أن النية تتعلق بغير المكتسب تبعا للمكتسب أما استقلالا فلا وبهذا نجيب عن سؤال صعب وهو أن النية في الأحكام مع أن فعل الإمام مساو لفعل المنفرد وإذا لم تكن الإمامة فعلا زائدا فهذه نية بلا منوي فلا تتصور والجواب عنه أن متعلق النية كونه مقتدى به وهذا وإن لم يكن من فعله لكن صحت نيته تبعا لما هو من فعله . الإمام ينوي الإمامة في الجمعة وغيرها