الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المسألة الخامسة اختلف العلماء في الطلاق بالقلب من غير نطق ، واختلفت عبارات الفقهاء فيه فمنهم من يقول في الطلاق بالنية قولان وهم الجمهور ، ومنهم من يقول اعتقد الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه ففيه قولان وهذه عبارة صاحب الجلاب والعبارتان غير مفصحتين عن المسألة فإن من نوى طلاق امرأته ، وعزم عليه وصمم ثم بدا له لا يلزمه طلاق إجماعا فقولهم في الطلاق بالنية قولان متروك الظاهر إجماعا ، وكذلك من اعتقد أن امرأته مطلقة ، وجزم بذلك ثم تبين له خلاف ذلك لم يلزمه طلاق إجماعا ، وإنما العبارة الحسنة ما أتى بها صاحب الجواهر ، وذكر أن ذلك معناه الكلام النفساني ومعناه إذا أنشأ الطلاق بقلبه بكلامه النفساني ولم يلفظ به بلسانه فهو موضع الخلاف ، وكذلك أشار إليه القاضي أبو الوليد بن رشد وقال إنهما إن اجتمعا أعني النفساني واللساني لزم الطلاق .

فإن انفرد أحدهما عن صاحبه فقولان فصارت النية لفظا مشتركا فيه بين معان مختلفة في اصطلاح أرباب المذهب ، يطلق على القصد والكلام النفساني فيقولون صريح الطلاق لا يحتاج إلى النية إجماعا ، وهو يحتاج إلى النية إجماعا وفي احتياجه إلى النية قولان ، وهو تناقض ظاهر لكنهم يريدون بالأول قصد استعمال اللفظ في موضوعه فإن ذلك إنما يحتاج إليه في الكناية دون الصريح ، ويريدون بالثاني القصد للنطق بصيغة الصريح احترازا عن النائم ومن يسبقه لسانه ، ويريدون بالثالث الكلام النفساني وقد بسطت هذه المباحث في كتاب الأمنية في إدراك النية إذا تقرر أن الطلاق ينشأ بالكلام النفساني فقد صارت هذه المسألة من مسائل الإنشاء في كلام النفس ، وكذلك اليمين أيضا وقع الخلاف فيها هل تنعقد بإنشاء كلام النفس وحده أو لا بد من اللفظ وبهذا التقرير يظهر فساد قياس من قاس لزوم الطلاق بكلام النفس عن الكفر والإيمان فإنه يكفي فيهما كلام النفس ، وقع ذلك في الجلاب وغيره .

ووجه الفساد أن هذا إنشاء ، والكفر لا يقع بالإنشاء وإنما يقع بالإخبار والاعتقاد وكذلك الإيمان والاعتقاد من باب العلوم والظنون لا من باب الكلام وهما بابان مختلفان فلا يقاس أحدهما على الآخر ومن وجه آخر هو أن الصحيح في الإيمان أنه لا يكفي فيه مجرد الاعتقاد بل لا بد من النطق باللسان مع الإمكان على مشهور مذاهب العلماء كما حكاه القاضي عياض في الشفاء وغيره فينعكس هذا القياس على قائسه على هذا التقرير ، ويقول وجب أن يفتقر إلى اللفظ قياسا على الإيمان بالله تعالى إن سلم له أن البابين واحد ، فكيف وهما مختلفان والقياس إنما يجري في المتماثلات .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 51 - 52 ] قال ( المسألة الخامسة اختلف العلماء في الطلاق بالقلب من غير نطق إلى آخر المسألة ) قلت ما قاله في ذلك صحيح ظاهر .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الخامسة ) اختلف العلماء في الطلاق بالقلب من غير نطق واختلفت عبارات الفقهاء فيه والعبارة الحسنة ما في الجواهر من أن معنى ذلك الكلام النفساني يعني أنه إذا أنشأ الطلاق بقلبه بكلامه النفساني ، ولم يلفظ به بلسانه فهو موضع الخلاف لا ما في عبارة الجمهور من أن معناه أن في الطلاق بالنية قولين وما في عبارة الجلاب من أن معناه أن من اعتقد الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه ففيه قولان فإن من نوى طلاق امرأته وعزم عليه وصمم ثم بدا له لا يلزمه طلاق إجماعا ، وكذلك من اعتقد أن امرأته مطلقة وجزم بذلك ثم تبين له خلاف ذلك لم يلزمه طلاق إجماعا .

( قلت ) فمن هنا نقل البناني عن التوضيح ما نصه الخلاف إنما هو إذا أنشأ الطلاق بقلبه بكلامه النفساني ، والقول بعدم اللزوم لمالك في الموازية وهو اختيار ابن عبد الحكم [ ص: 50 ] وهو الذي ينصره أهل المذهب القرافي ، وهو المشهور والقول باللزوم لمالك في العتبية قال في البيان والمقدمات وهو الصحيح وقال ابن رشد هو الأشهر ابن عبد السلام ، والأول أظهر لأن الطلاق حل للعصمة المنعقدة بالنية والقول ، فوجب أن يكون حلها كذلك إنما يكتفى بالنية في التكاليف المتعلقة بالقلب لا فيما بين الآدميين .

ا هـ ولذا اقتصر على الأول العلامة الأمير في مجموعه حيث قال لا بالكلام النفسي على الراجح ، وقال القاضي أبو الوليد بن رشد إن اجتمع النفساني واللساني لزم الطلاق فإن انفرد أحدهما عن صاحبه فقولان ا هـ فالنية في اصطلاح أرباب المذهب تطلق بالاشتراك اللفظي على القصد وعلى الكلام النفساني ، فإنهم يقولون صريح الطلاق لا يحتاج إلى النية إجماعا ، وهو يحتاج إلى النية إجماعا وفي احتياجه إلى النية قولان وظاهره التناقض لكنهم يريدون بالأول قصد استعمال اللفظ في موضعه ، فإن ذلك لا يحتاج إليه إلا في الكناية دون التصريح ، ويريدون بالثاني القصد للنطق بصيغة التصريح احترازا عن النائم ومن يسبقه لسانه .

ويريدون بالثالث الكلام النفساني وكما وقع الخلاف في انعقاد الطلاق بإنشاء كلام النفس وحده أو لا بد من اللفظ كذلك وقع الخلاف في اليمين ، ومن هنا يظهر أن ما في الجلاب وغيره من قياس لزوم الطلاق بكلام النفس عن الإيمان والكفر فإنه يكفي فيهما كلام النفس فاسد من وجوه : أحدها أن الطلاق إنشاء وهما لا يقعان إلا بالإخبار والاعتقاد . وثانيها أن الاعتقاد من باب العلوم والظنون لا من باب الكلام والبابان مختلفان فلا يقاس أحدهما على الآخر . وثالثها أنه على الصحيح من أن الإيمان لا يكفي فيه مجرد الاعتقاد بل لا بد معه من النطق باللسان مع الإمكان على مشهور مذهب العلماء كما حكاه القاضي عياض في الشفاء وغيره كان اللازم أن يقال في القياس على فرض تسليم أن البابين واحد يجب أن يفتقر الطلاق إلى اللفظ قياسا على الإيمان بالله تعالى .




الخدمات العلمية