والقطران يقوي شعلة النار فيكون عذابها بالنار بسبب هذين القميصين أشد العذاب وفي أبي داود { لعن الله النائحة والمستمعة } قال سند من أصحابنا هي التي تتخذ النواح صنعة ، قال وإلا فالمرة مكروهة لما في البخاري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك نساء جعفر لم يسكتهن } وفيه عن جابر رضي الله عنه جيء بأبي يوم أحد وقد مثل به وساق الحديث إلى أن قال فسمع صوت نائحة فقال من هذه ؟ فقالوا ابنة عمر فقال فلتبكي ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع وفيه { عن أم عطية رضي الله عنها أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ننوح فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة سمتهن } ، والنواح من الكبائر
. وصورته أن تقول النائحة لفظا يقتضي فرط جمال الميت وحسنه وكماله وشجاعته وبراعته وأبهته ورئاسته ، وتبالغ فيما كان يفعل من إكرام [ ص: 173 ] الضيف والضرب بالسيف والذب عن الحريم والجار إلى غير ذلك من صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت فإن بموته هذه تنقطع هذه المصالح ويعز وجود مثل الموصوف بهذه الصفات ويعظم التفجع على فقد مثله وأن الحكمة كانت تقتضي بقاءه وتطويل عمره لتكثير تلك المصالح في العلم فمتى كان لفظها مشتملا على هذا كان حراما ، وهذا أشر النواح وتارة لا تصل إلى هذه الغاية غير أنه تبعد السلوة عن أهل الميت ، وتهيج الأسف عليهم فيؤدي ذلك إلى تعذيب نفوسهم وقلة صبرهم وضجرهم ، وربما بعثهم ذلك على القنوط وشق الجيوب وضرب الخدود فهذا أيضا حرام ، ومتى كان لفظ النائحة ليس فيه شيء من ذلك بل ذكر دين الميت ، وأنه انتقل إلى جزاء أعماله الحسنة ومجاورة أهل السعادة ، وأنه أتى عليه ما قضى على عامة الناس ، وأن هذا سبيل لا بد منه ، وأنه موطن اشترك فيه جميع الخلائق ، وباب لا بد من دخوله فهذا ليس بحرام فإن زادت على ذلك بأن تأمر أهل الميت بالصبر ، وتحثهم على طلب الأجر والثواب ، وأنهم ينبغي لهم أن يحتسبوا ميتهم في سبيل الله .
ويعتمدون في حسن الخلف على الله تعالى ونحو ذلك فهذا مندوب إليه مأمور به وعلى هذه القوانين تتخرج المراثي فتنقسم أيضا إلى المحرمة الكبيرة وإلى المحرمة الصغيرة وإلى المباح وإلى المندوب على قدر ما يتضمنه لفظ المرثية فمن المراثي المباحة الخالية عن التحريم ما رثى به ابن عمر أخاه عاصما لما مات فقال :
فإن تك أحزان وفائض دمعة جرين دما من داخل الجوف منقعا تجرعتها في عاصم واحتسبتها
فأعظم منها ما احتسى وتجرعا فليت المنايا كن خلفن عاصما
فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت
تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
وليس فيه ما يشير إلى التجوير ولا تسفيه القضاء بل إنه حزين متألم لميته ، وكان يشتهي لو مات معه فهذا أمر قريب لا غرو فيه ، ومثال الرثاء المندوب ما روي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما مات عظم مصابه على ابنه عبد الله ، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عظيما عند الناس في نفسه ؛ لأنه كان ترجمان القرآن وافر العقل جميل المحاسن والجلالة والأوصاف الحميدة فأعظمه الناس على التعزية إجلالا له ومهابة بسبب عظمته في نفسه وعظمة من أصيب به ، فإن العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مثل والده وكان يقال من أشجع الناس فيقال العباس ومن أعلم الناس فيقال العباس . ومن أكرم الناس فيقال العباس فلما مات عظم خطبه وجلت رزيته في صدور الناس وفي صدر ولده عبد الله رضي الله عنهما وأحجم الناس عن تعزيته فأقاموا على ذلك شهرا كما ذكره المؤرخون فبعد الشهر قدم أعرابي من البادية فسأل عن عبد الله بن عباس فقال له الناس ما تريد فقال أريد أن أعزي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقام الناس معه عساه أن يفتح لهم باب التعزية فلما رأى عبد الله بن عباس قال له سلام عليك يا أبا الفضل فقال له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فأنشده :
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
وهذا كلام في غاية الجودة من الرثاء مسهل للمصيبة مذهب للحزن محسن [ ص: 175 ] لتصرف القضاء مثن على الرب تعالى بإحسان وجميل العوارف ، فهذا حسن جميل ومثله ما ورد في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي سمع أهل بيته قائلا يقول يسمعون صوته ولا يرون شخصه : سلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفا من كل فائت وعوضا من كل ذاهب فإياه فارجوا وبه فثقوا فإن المصاب من حرم الثواب فكانوا يرونه الخضر عليه السلام فهذا أيضا كلام من القربات ومندرج في سلك المندوبات ومن الرثاء المحرم الفظيع ما وقع في عصرنا في رثاء الخليفة ببغداد في أيام الصالح رحم الله الجميع فعمل له الملك الصالح عزاء جمع فيه الأكابر والأعيان والقراء والشعراء فأنشد بعض الشعراء في مرثيته :
مات من كان بعض أجناده الموت ومن كان يختشيه القضاء
وأغلظ الإنكار عليه وبالغ في تقبيح رثائه ، وأقام بعد التعزير في الحبس زمانا طويلا ثم استتابه بعد شفاعة الأمراء والرؤساء فيه وأمره أن ينظم قصيدة يثني فيها على الله عز وجل تكون مكفرة لما تضمنه شعره من التعرض للقضاء بقوله من كان بعض أجناده الموت تعظيما لشأن هذا الميت ، وأن مثل هذا الميت ما كان ينبغي أن يخلو منه منصب الخلافة ومتى تأتي الأيام بمثل هذا ونحو ذلك .
وقوله : يختشيه القضاء يشير إلى أن الله تعالى كان يخاف منه وهذا إما كفر صريح وهو الظاهر من لفظه أو قريب من الكفر فالشعراء في مراثيهم يهجمون على أمور صعبة رغبة في الإغراب والتمدح بأنه طرق معنى لم يطرق قبله فيقعون في هذا ومثله ، ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } قال المفسرون هذه الأودية هي أودية الهجاء المحرم ونحوه مما لا يحل قوله ، فظهر لك بهذا البسط والتقرير الفرق بين النواح المحرم والرثاء [ ص: 176 ] المحرم من غيره بتقرير القواعد المتقدمة فقس عليه ما يرد عليك من ذلك في البابين .


