( الفرق الثاني والمائتان بين قاعدة الصلح وغيره من العقود )
اعلم أن الصلح في الأموال دائر بين خمسة أمور : البيع إذا كانت المعاوضة عن أعيان ، والصرف إن كان فيه أحد النقدين عن الآخر ، والإجارة إن كان عن منافع ، ودفع الخصومة إن لم يتعين شيء من ذلك ، والإحسان ، وهو ما يعطيه المصالح من غير الجاني . فمتى تعين أحد هذه الأبواب روعيت فيه شروط ذلك الباب لقوله عليه السلام { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا } ، ويجوز عندنا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه على الإقرار والإنكار ، وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز على الإنكار ، واحتج بوجوه :
( الأول ) أنه أكل المال بالباطل لأنه [ ص: 3 ] ليس عن مال لعدم ثبوته ، ولا عن اليمين ، وإلا لجازت إقامة البينة بعده ، ولجاز أخذ العقار بالشفعة لأنه انتقل بغير مال ، ولا هو من الخصومة ، وإلا لجاز عن النكاح والقذف .
( الثاني ) أنه عاوض عن ملكه فيمتنع كشراء ماله من وكيله .
( الثالث ) أنها معاوضة فلا تصح مع الجهل كالبيع .
والجواب عن الأول أنه أخذ المال بحق ، ولا يلزم من عدم ثبوته عدمه . نعم من علم أنه على باطل حرم عليه أخذ ذلك المال ، وأما إقامة البينة بعدة فقال الشيخ أبو الوليد تتخرج على الخلاف فيمن حلف خصمه ، وله بينة فله إقامتها عند ابن القاسم مع العذر وعند أشهب مطلقا .
وأما القذف فلا مدخل للمال فيه ، ولا يجوز فيه الصلح مع الإقرار فكذلك مع الإنكار ، ونلتزم الجواز في النكاح قال الشيخ أبو الوليد قال أصحابنا إذا أنكرت المرأة الزوجية أن من الناس من يوجب عليها اليمين فتفتدي بيمينها ، ونلتزم الشفعة ، وعن الثاني بالفرق بأنه مع وكيله متمكن من ماله بخلاف صورة النزاع فإنها لدرء مفسدة الخصومة ، وعن الثالث أن الضرورة هنا تدعوا للجهل بخلاف البيع قال أبو الوليد لو ادعى عليه ميراثا من جهة مورث صح الصلح فيه مع الجهل ، والعجب من الشافعي رضي الله عنه أنه يقول للمدعي أن يدخل دار المدعى عليه بالليل ، ويأخذ قدر حقه فكيف يمنع مع الموافقة من الخصم على الأخذ ، ويتأكد قولنا بقوله تعالى { وأصلحوا ذات بينكم } وغيره من الكتاب والسنة ، ولأنا أجمعنا على بذل المال بغير حق في فداء الأسارى والمخالعة والظلمة والمحاربين والشعراء فكذلك ها هنا لدرء الخصومة ، ولأنه قاطع للمطالبة فيكون مع الإقرار والإنكار كالإبراء ، ويجوز مع عدم المال من الجهتين كالصلح على دم العمد ، ولأنه يصح فيه مع الإنكار فصح الصلح عليه قياسا عليها .


