( الفرق الخامس والمائتان بين قاعدة ما يضمن بالطرح من السفن وبين قاعدة ما لا يضمن )
قال مالك إذا طرح بعض الحمل للهول شارك أهل المطروح من لم يطرح لهم شيء في متاعهم ، وكان ما طرح وسلم لجميعهم في نمائه ونقصه بثمنه يوم الشراء إن اشتروا من موضع واحد بغير محاباة لأنهم صانوا بالمطروح ما لهم ، والعدل عدم اختصاص أحدهم بالمطروح إذ ليس أحدهم بأولى من الآخر ، وهو سبب سلامة جميعهم فإن اشتروا من مواضع أو اشترى بعض أو طال زمان الشراء حتى تغيرت الأسواق اشتركوا بالقيم يوم الركوب دون يوم الشراء لأنه وقت الاختلاط .
وسواء طرح الرجل متاعه أو متاع غيره بإذنه أم لا قال ابن أبي زيد ، ولا يشارك من لم يرم بعضهم بعضا لأنه لم يطرأ سبب يوجب ذلك بخلاف المطروح له مع غيره قال ابن حبيب وليس على صاحب المركب ولا النواتية ضمان كانوا أحرارا أو عبيدا إلا أن يكونوا للتجارة فتحسب قيمتهم ، ولا على من لا متاع له لأن هذه كلها وسائل ، والمقصود من ركوب البحر إنما هو مال التجارة ، ويرجع بالمقاصد في المقاصد ، ومن معه دنانير كثيرة يريد بها التجارة فكالتجارة بخلاف النفقة وما يراد للقنية ، وقال ابن بشير لا يلزم في العين شيء من المطروح لأنه لا يحصل الغرق بسببها لخفتها ، وقال سحنون يدخل المركب في قيمة المطروح لأنه مما سلم بسبب الطرح .
وقال أبو محمد إن خيف عليه بصدم قاع البحر فطرح لذلك دخل في القيمة ، وقال أهل العراق يدخل المركب ، وما فيه للقنية أو التجارة من عبيد ، وغيرهم لأن أثر المطروح سلامة الجميع [ ص: 9 ] وجوابهم أن شأن المركب أن يصل برجاله سالما إلى البر ، وإنما يغرقه ما فيه عادة ، وإزالة السبب المهلك لا يوجب شركة بل فعل السبب المنجي ، وهو فرق حسن فتأمله فإن فاعل الضرر شأنه أن يضمن فإذا زال ضرره ناسب أن لا يضمن لعدم سبب الضمان ، وفاعل النفع محصل لعين المال فناسب أن يستحقه أو بعضه لأن موجد الشيء شأنه أن يكون له فإن صالحوا صاحب المطروح بدنانير ، ولا يشاركهم جاز إذا عرفوا ما يلزمهم في القضاء فإن خرج بعد الطرح من البحر سالما فهو له .
وتزول الشركة أو خرج وقد نقص نصف قيمته انتقص نصف الصلح ويرد نصف ما أخذ .
( سؤال ) إذا وجدت الدابة المصالح عليها في التعدي أو العارية تكون لمن صالح عليها ، وها هنا المصالح عليه لصاحبه فما الفرق ؟
( جوابه ) التعدي ينقل المتعدى عليه للذمة بالقيمة فيكون له لأن القيمة للمتعدى عليه فلا يجمع له بين العوض والمعوض عنه ، والبحر شيء توجبه الضرورة فلا يحصل الصلح فيه بيعا لا ينتقض ، وإن لم يكن في السفينة غير الآدميين لم يجز رمي واحد منهم لطلب نجاة الباقين ، وإن كان ذميا قال الطرطوشي في تعليقه ، ويبدأ بطرح الأمتعة ثم البهائم لشرف النفوس قال وهذا الطرح عند الحاجة واجب ، ولا يجري فيه القولان اللذان للعلماء في دفع الداخل عليك البيت لطلب النفس أو المال ، ولا من اضطر إلى أكل الميتة ففيهما قولان : ( أحدهما ) يجب الدفع والأكل . ( وثانيهما ) لا يجبان لقصة ابني آدم ، ولقوله عليه السلام { كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل } ، وعليه اعتمد عثمان رضي الله عنه في تسليم نفسه ، والفرق أن التارك للقتل والأكل هنالك تارك لئلا يفعل محرما ، وها هنا لبقاء المال .
واقتناؤه ليس واجبا ، وأكل الميتة وسفك الدم محرم ، وما وضع المال إلا وسيلة لبناء النفس ، ولم يوضع قتل الغير ، وأكل الميتة وسيلة لذلك ، ولا يضمن الطارح هنا ما طرحه اتفاقا ولمالك في أكل مال الغير للمجاعة قولان بالضمان وعدمه ، ولا يضمن بدفع الفحل إذا قتله لأنه كان يجب على صاحبه قتله صونا للنفس فقد قام عن صاحبه بواجب .
وقال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما لا يضمن أحد من أهل السفينة إلا الطارح إن طرح مال غيره ، وإن طرح مال نفسه فمصيبته منه ولو استدعى غيره منه ذلك ، ووافقونا إذا قال اقض عني ديني فقضاه ، وفي اقتراض المرأة على زوجها الغائب واقتراض الوصي لليتيم [ ص: 10 ] فإنه يأخذ من ماله نظرا له قلنا القياس على هذه الصورة بجامع السعي في القيام عن الغير بواجب لأنهم أجمعين يجب عليهم حفظ نفوسهم وأموالهم فمن بادر منهم قام بذلك الواجب ( احتجوا ) بأن السلامة بالطرح غير معلومة بخلاف الصائل ، وبالقياس على الآدميين وأموال القنية .
( الجواب عن الأول ) أنه ينتقض بطعام المضطر فإن المضطر يضمن مع احتمال هلاكه بما أكل بل يعتمد في ذلك على العادة فقط ، وقد شهدت بأن ذلك سبب السلامة فيهما مع احتمال النقيض
( وعن الثاني ) ما تقدم أول المسألة من الفرق مع أن الطرطوشي قال : القياس التسوية بين القنية والتجارة لأن العلة صون الأموال ، والكل يثقل السفينة
[ ص: 8 - 10 ]


